في معنى الاعتراف بالهزيمة الإسرائيلية
مهنا الحبيل
كان خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن، في ختام الشهر المنصرم، خارج السياق الذي اعتادت المركزية الغربية التحدث عنه، في أي حرب يخوضها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، ولذلك أنتقد أحد المسؤولين الإسرائيليين الخطاب، واصفاً إياه بخطاب نصر للمقاومة الفلسطينية، وقبل الاستطراد في هذا السياق، يجدر بنا التوقف للمراجعة العقلانية المسؤولة، لفهم هل هذا الوصف صحيح، ثم تجريده في أي معنى يتجه على الأرض.
فأول ما يتبارد له التصور، هو جدولة الزمن الضاغطة على بايدن في الجدول الزمني لانتخابات الرئاسة الأمريكية، في نوفمبر القادم، وتأرجح حظوظه بعد فرصة إقصاء ترمب المتوقعة، حين يحسم القضاء ملفه نهائياً، وهذا أمر لا يترتب عليه حسمٌ بالضرورة لصالح بايدن، مع البديل الجمهوري، غير أن موقف بايدن الداعم المطلق، لكل دورات الإبادة في محرقة غزة القائمة، سيتأثر قطعاً بتخلي كتلة تصويتية مهمة عنه، في تحدي عودة الرئيس التائه للبيت الأبيض مجدداً.
وعليه يحضر سؤالاً آخر، وهو هل كانت بوصلة التأييد المطلق لتل ابيب، لتهتز ساعةً من نهار في مزاد الانتخابات الأمريكية؟
أم كانت أشد رسائلها يحضر في التوله للصهيونية في هذا التوقيت.
فكيف يدفع بايدن بمواقفه الناقدة لسياسة نتانياهو، في هذا المدار الحرج، ويعلن أن واشنطن تولت بنفسها، طرح المقترح المعدل لوقف الحرب على غزة، فهل كان اللوبي اليهودي متماسكاً في أمريكا، أو في معقله في فلسطين المحتلة في هذه اللحظة؟
الجواب هو كلا..
فدلائل الاضطراب عالية الوضوح، مستمرة الفوضى في سجل الجدل السياسي في الكيان الصهيوني، ثم في انتقاله لحلفائه، في الزعامة السياسية للمركزية الغربية، التي أنشأت هذا الكيان ودعمته، ورعته في مذابحه وفي سياساته الإرهابية، فضلاً عن أصل مهمته الوظيفية في الشرق، وهذا الاضطراب الذي وجّه فيه نتانياهو، نقداً للمواقف الأوربية ومنها باريس، بسبب هجوم بعض مسئوليها الناعم، على سياسة الإبادة المفتوحة.
والتي تمارسها القيادة الصهيونية بلا قيود، بل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وفقاً لإحصائيات الرأي، مما دفع المواطن الغربي المحايد، أن يراجع مشهد تشكل الكيان، وأن تأسيس المواطنة له كان فعلاً إبادي بذاته، واحتلال دموي عبر توطين الجاليات اليهودية المستنفرة في الغرب، لاستئصال شعب الأرض المحتلة، واحلال غزاة مكانه.
وهذا ما كان يقرره الفلاسفة الأخلاقيون في الغرب، من يهود وملحدين ومسيحيين، الذين تحرروا من هيمنة الاكاديمية الرأسمالية، فبدأت تضج مواقع الإعلام الاجتماعي بالتصريح به، حتى انني اقف مدهوشاً وقد حضرت بعض الاحتجاجات، ورأيت كيف يصرخ المواطن في أمريكا الشمالية، بهتاف (من البحر إلى النهر سوف تتحرر فلسطين) بلغته الإنجليزية الصريحة.
هنا نحن نتابع دحرجة الكرة في الاتجاه المعاكس لتاريخ الكيان الصهيوني وحربه، وبالتالي تأثير كِلا المسارين، الصمود في شعب غزة، وفي انجاز المقاومة الأسطوري، وخاصة بعد سقوط حلم نتانياهو بأن الإبادة في رفح ستضمن له نصراً تاريخياً، يغطي به كل جرائم حربه، فباتت ترتد عليه، وتُعزّز جدار الحصار على المركزية الغربية، التي تغيرت مواقفها قليلاً مع السياسة الصهيونية، لا كصحوة ضمير، ولا كراهية للإبادة ذاتها.
بل لكون قدرات استيعاب المجازر كحرب مفتوحة، بدأت تتصاعد وترتد على الضمير الشعبي الغربي، وتمثل جزءً مهما من الإرادة التصويتية الشعبية، على القرار السياسي، حتى لو كانت محدودة، ثم تحول الانتفاضات الطلابية، إلى حالة ضمير يترسخ في المجتمعات الغربية، تتجاوز الحدود التي صنعتها المركزية الرأسمالية الحداثية، لمساحة الجائز والمحرم في تناول القضية الفلسطينية، وأصبحت تواجه إعصاراً شعبياً.
ولذلك نقف هنا باحترام تاريخي كبير، أمام دور حركة الاحتجاج الطلابية في الغرب، وخاصة في أمريكا الشمالية، في الضغط على سياسات المركز الغربي، وليس فقط في إنكار فعائله الشنيعة، في دعم الكيان وامداده المستمر بآلة المحرقة وأدواتها.
ثم تحول المواقف إلى أطقم الحكومات والبرلمانات الغربية، وكل هذا لم يكن ليتجسد على الأرض بهذه الصورة كما هو اليوم، وبالذات حين تبقى قبضة المقاوم حافي القدمين، الذي أُحرق بيته وأطفاله مستمرة على الزناد، تُفزع نتانياهو وحكومته الإرهابية، وتُقرّر مستقبله السياسي، بمصابرتها على الأرض، وببعث الروح المتصل بين قداس الشهداء، وبين رمي المقاومين على الغزاة المعتدين.
هذا المشهد، أو قل هذا القُدّاس لم يعد لوحة تعاطف عابرة، بل برنامج دفع فاعل، يحرك النفس البشرية وأين؟ في المعقل الغربي!
بعد أن ضمنت المركزية الغربية، أن شعوب حاضر العالم الإسلامي، لا العربي وحسب، تم استيعاب دورات غضبهم، ونجح وكلاء الصهيونية المخلصون لها، في فرض ثقافة تسليم على الرأي العام، وإن كان ذالك ليس محسوماً قطعاً، ولا نحمل كل شرائح الشعوب المسؤولية، بل لا نُسلّم بانطفاء القضية فيهم، فهي حاضرة ترتد لها الروح في دورة زمنية قادمة، بعثها قداس غزة ورماد جثامين الأطفال في رفح واخواتها.
إذن هذه هي الدحرجة التي أشرنا لها، في تحقيق معركة فلسطين دورة تصدر عالمية، في الضمير الإنساني، الذي لم تعد المركزية الغربية تقدر على تحييده، ثم انتقال المشاعر الاجتماعية الثائرة في المركز الغربي، إلى قلق الساسة على مقاعدهم ومصالحهم في الشرق الأوسط، والخشية من فقدان السيطرة، هو دلائل هذه الهزيمة.
فهل كان خطاب بايدن أصلاً، وما عرضه يمثل حالة هزيمة شاملة، او حتى جزء يسير من انصاف الضحايا، نقول كلا قطعا..
فهذه الفاتورة العظيمة من أبناء شعبنا، وكشف الحساب لدور الأنظمة العربية القمعية الشريكة، واستثمار ايران في جسد الشعب الفلسطيني، الذي خرج عن خط الشيخ احمد ياسين التاريخي، في تثبيت معادلة المقاومة، كلها مسارات تحتاج إلى إعادة برمجة وتنظيم، فلن تُسلّم المركزية الصهيونية، بواقع هذا الإلهام.
ولذلك كانت خطة بادين ومصطلحاته خبيثة، لا تريد منح الفرصة، لعودة غزة حرة رغم كل المحارق، وأن تبقى المقاومة هي قيادتها المطلقة، لكن العبور الاضطراري للمركزية الغربية، يجب التعامل معه، بسياسة ذكية، تفتح باب السلامة لمن تبقى من شعبنا، ومع الدموع التي لا تنقطع، والحسرة على الأبرياء التي تشتكي الى الله، فإن هناك حبل من الله وحبل من الناس، كما أعلنه البارئ في علاه، يسمح للمقاومة وللشعب للخروج الى دورة جديدة.
تبصر على الأرض ما حققته فلسطين الحرة، في الأرض العالمية، وتبني عليه خطتها، ليس عبر انفراد غزة أمام وحوش الإرهاب العالمي، ولكن بإعادة ضبط المشروع الياسيني، في برنامجه المركزي للتحرير، المجد والنصر والرحمة للمقاومين، وللضحايا المرابطين ولشهدائنا أجمعين.