اغتيال الكيان السُني في لبنان

مهنا الحبيل

أحسب أن الزعيم السياسي وليد جنبلاط، من أهم الشخصيات التي يقاس عبرها تقلبات الواقع الوطني اللبناني، من خلال زعامته لدروز لبنان وتحريك انحيازاته ومواقفه في كل المنعطفات السياسية الصعبة، والصراعات الأهلية والحروب السياسية الشرسة، وتقلباته في اتخاذ المواقف والحلفاء، والتي تتبدل فيها أوضاع بيروت عبر قاعدتين، دولة الطوائف الأصلية في لبنان منذ التأسيس، والوصاية الخارجية، التي هي جزء أصيل من قاعدة اللعبة، كما أكد ذلك وليد جنبلاط في لقاء بودكاست أثير.
ولوليد كمال جنبلاط ذاكرةٌ من تاريخ والده الشهيد، كسجل وطني للنخبة المخلصة، التي مثلت الروح العربية الوطنية المختلفة، والمرتفعة عن المصالح الفئوية، والتي قدمت حياتها في سبيلها، وبالتالي هنا بقية من ذلك الإرث الذي قد يذكّر وليد بيك، بوالده والمفتي الشيخ حسن خالد وجورج حاوي، وغيرهم من ذلك الجيل، الذي سعى لصناعة عقيدة وطنية عربية للبنان، تخرج من تلك الوصاية، عبر قوة الجسور بين الطوائف، فيولد لبنان جديد عبر وحدة الطوائف لأجل الوطن، لا تصارع الوطن لصالح الطوائف.
لكن ذلك كله انهار، وانهار معه ذلك الأفق أو الحلم البعيد، وعاد لبنان أسيراً للبعد الثاني، ومن خلاله سهّل على الوصاية الدولية، التي اقتحمت مشهدها ايران بقوة، وأصبحت ضلعاً قوياً فيها، إعادة لبنان لمربعات بطاقات المصالح، ولذلك فحديث جنبلاط وغيره، من الساسة اللبنانيين عن الوطن من خلال الطوائف، هو الأمر الذي أصبح طبيعيا اليوم.
ومراراً طلب وليد جنبلاط من محاورته، وهي الإعلامية الجزائرية خديجة بن قنة، العودة إلى ابنه تيمور، بحكم أنه هو رئيس الحزب اليوم، لأخذ موقف الكتلة الدرزية السياسي، أو قيادة الحزب التي وُرِثَت لتيمور، وهو مدار يشير أيضاً إلى أن حالة التوريث للطوائف جذرية وممتدة، وهذا لا يعني أن تيمور لم يُنتخب من قواعد الحزب، فهذا التوارث ممتد على كل طوائف لبنان، الفارق الذي طرأ عليها، دخول أسرة الحريري، وقبل ذلك هيمنة حزب الله وشريكه المذهبي حركة امل على الساحة الشيعية.
فهنا حضور الطائفية تجده ماثلاً في حوار جنبلاط، وفي رسم البرزخ الذي ينتقل له لبنان اليوم، وكون وليد جنبلاط من الجيل المخضرم العتيق، رغم تقدم العمر عليه في الحوار، إلا أنهُ ظل يعيد تجسيد الصورة عبر مجهره الدقيق، الذي يعنينا في تحديد خيارات لبنان، فترمومتر جنبلاط مهم لفهم المستقبل الجديد.
ولقد كان الحوار في الأصل يميل لصالح الطرف الأبرز، الذي يمثل قوة التعطيل الرئيسية وهو حزب الله، فتوجهت أسئلة البودكاست عنه، وما يمثله من بعد إيراني في الواقع، تقاطع مع رأي وليد جنبلاط على أن العبور إلى المرحلة المقبلة، سيكون عبر قيادة رئيس البرلمان نبيه بري، وهي الرئاسة الوحيدة المتبقية في العاصمة، بعد تعطيل حزب ايران وحلفائه، انتخاب رئيس الجمهورية، وتكليف رئيس الحكومة.
والذي خرج من يدي الطائفة السنية لأول مرة، وأصبح من يحسم الأمر فيه هو تحالف محور ايران، وعليه فإن جنبلاط هنا، يؤكد اعترافه وتسليمه الضمني، لقيادة نبيه بري، في ذات الوقت الذي يُحملّه ضمنياً مأسسة هذا العبور دولياً، بالتعامل مع شقه المذهبي في الحزب الإيراني.
وحين قالت المحاورة بأن الحريرية انتهت، في ظل بسط بأس الحزب على لبنان، تحفظ وليد جنبلاط بحكم أنه يُبقي مساحةٌ للقوى التاريخية، كما عرف عنه، من أجل توازن الضرورات للبنان، فأعطى الرأي الذي يكبح مآل الحوار، إلى اعلان الحزب الإيراني سيداً مطلقاً في بيروت، وبالطبع طرح هذا السؤال من خلال حرب العدوان على غزة، ودخول الساحة اللبنانية، طرفاً فيها.
والذي شدد فيه جنبلاط على ضرورة ضبط الموقف اللبناني، في بقاء مساحة لبنان خارج ميدان الحرب الأخيرة، أو سحبه منها، ومجمل الموقف يتحد مع ما ذكره جنبلاط، من أن تفاهمات الرئيس بري تتجه الى هذا الخيار مع السفير الأمريكي، فكما أن ايران انسحبت كقوة رئيسية بعد محرقة غزة، وعزلت ذاتها القومية عن الاشتباك المباشر، فإن الأطراف المتبقية التابعة لها، يُنظّم لها جدولة هذا الانسحاب، وإعادة تكييفه، حتى مع بقاء فاتورة تسديد قتالية دموية ضرورية مع تل ابيب، لاستمرار تعويم الحزب، كمهيمن على القرار في لبنان، وتطوير مساحته التنفيذية.
ربما كان تحفظ جنبلاط على اعلان موت الكيان السني في لبنان، وليس بيت الحريري فقط، محاولة منه لتأكيد القناعة في أن تخلي بيروت عن أصلها العربي، والذي ظل الحاضن السني، هو الجامع لبقية الطوائف ولحشد الروح الوطنية، هو إنذار بأن قواعد اللعبة في بيروت حتى اللحظة، لا تتحمل قرار الاغتيال السياسي للطائفة، لكن في نهاية الأمر وضع القوى السنية المدنية الممزقة والمفرقة، سيخضع إلى تفاهمات الرئيس بري، في حجمها الجديد، بعد إتمام صفقة الخروج من الحرب.
والذي لن يُدرج قطعاً مآل غزة ومصيرها عند الإرهاب الصهيوني، رغم كل الحشد الصوتي، بل الفعل الحربي في الجنوب اللبناني، فهناك حروب مركزية، وهناك معارك ظرفية، تُضبط عبرها قواعد اللعبة لأجل لبنان إيران، وليس لأجل لبنان الوطن العربي وفلسطين، وهنا نستحضر ما مثلته الحالة السُنيّة، من روح مدنية عامة، كانت هي الغطاء الأساس لبقاء لبنان العربي المنفتح على ذاته وأمته، فماذا يعني اغتياله اليوم؟
لقد وصلنا لنظرية موت الكيان السني في لبنان، بسبب سياسات النظام العربي الرسمي، بحماقاته وبعداءاته القائمة على النزوات، ومشيخة القبائل لا مصالح الإستراتيجيات، فتفتيت الكتلة السنية، وعزلها عن القيام المستقل بالمسؤولية العربية، التي تمثلها المفاهيم الوطنية للبنان، ثم دفعها الى مواقف بعض الأنظمة في الخليج العربي، وانحدار الساحة السُنيّة، وضرب بعضها ببعض، باسم مصالح النظام العربي الذي تحالف مع الفكرة الصهيونية، أو مصالح طهران، قاد سُنّة لبنان بل الجمهورية لهذا المآل، فتصدر الخصمُ الإيراني والصهيوني معاً، واغتيل الكيان والإنسان.