فيكتور هوجو وعقوبة الإعدام
مهنا الحبيل
شكّل فيكتور هوجو في ملحمتيه الروائيتين، البؤساء وأحدب نوتردام، جسراً عالمياً للتدفق الأدبي، الذي تحول إلى بحيرة تصل سواحلها إلى كل جغرافيا المعمورة، ورغم أن هوغو برز فرنسيا كشاعر أكثر منه قاص، إلا أن عزف المشاعر يظل بعثه محركاً للوجدان، حارثاً للنفس البشرية أكان شعراً أم نثراً، وهذا بالضبط ما نعيشه في سيمفونية هوجو في روايته (آخر يوم لمحكوم عليه بالإعدام).
والجدل الذي دار عن إسلام هوجو 1881 م، توقفت فيه مع الحوار الذي أجرته النهار اللبنانية، مع المستشرق الفرنسي، والدبلوماسي الكاتب لوي بلان، عن كتابه الجديد فيكتور وهوجو والإسلام.
هذا الحوار أُجري في فبراير عام 2023، وفيه ثبّت المؤلف على الأقل اهتمام هوجو الكبير والعميق بالإسلام، بغض النظر عن إنكار مصادر فرنسية، لهذا التوجه لديه، وللقصيدة العميقة في رثاء النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، (في العام التاسع من الهجرة) وقلتُ إنها رثاء لأن معنى المديح يندرج في الرثاء، والذي يتفق عنوانها مع زمن رحيل المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ويهمني هنا قول بلان أنهُ ليس معنياً بسؤال الإسلام في حياة هوجو، ولكن في انفتاحه على الرسالة الإسلامية، وهذه بوابة كبيرة مهمة، تعود بنا إلى اتجاهات الانفتاح على الإسلام، في البعث الأدبي والفلسفي التنويري في اوروبا وكيف نقرأ عهده الأول، الذي انفصل عن التوظيف الكولونيالي؟
ولكن حديثنا اليوم ينصب على تأثير مبادئه الرقيقة تجاه رفض عقوبة الإعدام، في روايته المشار اليها والتي ساقها في مسار درامي وعاطفي، فلا تصمد العاطفة مطلقاً أمام الميزان العدلي، وتقدير دور إنزال عقوبة الإعدام على المستحق لها بالقطع الجنائي والقضائي، في السلم العام للناس.
وهوجو في تدفقه الأدبي ولوحته الأولى التي رسمها في كتابه، كان يُجسّد مسرح مشاعر إنسانية، اعتمدت في الأصل على إعدام قادة أو ساسة، اضطهدتهم السلطة أو شككت فيهم، وحرضت عليهم الجماهير، في هذه الحالة السياسية الضحية مظلوم لم يستحق العقوبة أصلاً، فلا يوجد رصيف انساني قانوني معتبر يدعم هوجو، في إلغاء العقوبة عن الجناة الآخرين.
وفي الزاوية الأخرى، فإن تبرير هوجو لرفض عقوبة الإعدام، يُنصبُ له مسرحَ موتٍ في آخر حياة السجين، تُركّز فيه الأيقونة العاطفية الدرامية، على ساعاته الأخيرة، لكنها تُغفل تلك الحياة أو الحيوات، في لحظات الألم المقيم في ذاكرة أهل الضحايا، أو في ساعة غدر الجاني بالضحية، وهنا نحن نتحدث عن المقطوع بجنايتهم، فكيف تكون عقوبة الإعدام غير رحيمة، وكيف تضمن لبلد يَغتصبُ فيه الجاني آحاد أو عشرات، ثم يقتلهم قطعاً أو حرقاً، فتكون العقوبة قاسية، وتصطف بعض المنظمات الحقوقية في الغرب على منع انزالها.
نشير هنا إلى المبدأ المجرب لفائدة ردة الفعل لضمير الرأي العام، والذي حدده القرآن في مقام القِصاص، لا الانتقام، وإن كان القصاص العام، الذي تقوم به دولة العدالة الرشيد، يسحب سخينة الأنفس من ذوي الضحايا، ويُشعرهم باسترداد الحق، وأن القصاص يُطمئنُ النفس، أكثر من فوران الانتقام، كما أن القصاص، يغلق أبواب الثأر، أو يحصرها في نطاق محدد.
واستمرار هذه الظواهر في الثأر، في عالم الجنوب ليس مدارها على فشل تطبيق الإعدام للمستحق، ولكن في العجز أو الخلل أو الفساد السياسي، والاضطراب الاجتماعي الذي خلّفَه.
أما الاعتبار من مشهد القِصاص أو إذاعة خبره، فهو يردع أنفساً كثيرة، فغياب الرادع المنتظر، محفّز شرس وخطير، يُعزّز فرص خروج العشرات بل المئات، عن النظام العام، وخرقه عبر القتل لمصلحة مادية، أو لتصفية الحسابات، لسقوط الردع النفسي ومخاوفه، ومن الطبيعي أن ذلك لن يقضي على كل الحالات، في حفز الأنفس المريضة أو الجانية، للقتل أو الاغتصاب أو غيرها من الجنايات المستحقة لعقوبة القتل، ولذلك شرّع النظام السماوي والنص الإلهي القصاص، في الأديان السماوية، فهذا القصاص يُقلل الجرائم إلى أدنى حد، فيأمن المجتمع بالجملة.
هنا يبرز مفهوم (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) فهو مصطلح مذهل، معجز فيما يجمعه من مبادئ ومن مآل منتظر، ومن أخلاقية التشريع، وهو أنه حُكم عدلي يقوم على تحقيق أعلى موازين الحياة البشرية، وأمنها في الأرض، وليس برنامجا فئوياً، أو رصيف صراعات متعددة.
وأن الحياة هنا هي حياة الجمع العام من الناس، مواطني ومقيمي دولة، أو سكان مدينة، أو قاطنين حي، أو جماعة بدو، أو فلاحي بساتين نائية، أو أي مجتمع بشري يسكن أرضاً، فإن حياته ممتدة عبر القصاص، حيث تُفرز روح الكراهية، بإنزال العقوبة من الجاني، ومن ضمير الضحية، وتسكن الأرض إلى الحياة الآمنة من جديد.