الإلحاد المسيحي الحديث والصهيونية
مهنا الحبيل
خلال حرب العدوان التي نعيشها على غزة، صرح د. ريتشارد دوكينز في لقاء مصور، بآراء مفاجأة، فهو اليوم يعادل نبي الإلحاد الحديث، والإلحاد يُعتبر في بعض الدراسات الأكاديمية أحد الأديان، فهو معتقد يطوي النفس والضمير، على تصور عن قصة هذه الحياة، ولكن رغم أنه دين يعتقد العدمية المطلقة، أصلاً إيمانياً لا حدود له، فلا خالق ولا مخلوق، فالأصل أنهُ يتفاصل مع كل الأنبياء وأتباعهم أينما كانوا، وكيفما كانوا.
وهنا كان المفترق الذي برز في اعلان د. دوكينز أن إلحاده مرتبط ببعد ديني، وانتماء روحي مسيحي برره بصورة حضارية حسب مقاييسه، وهي أن هذه الروح المتمردة نحو الإلحاد، حين يقفز لديها الصراع بين المسيحية الغربية البيضاء، وبين الحضارة الإسلامية، فهي تنتمي للأولى بلا تردد، وتجد أن لديها أبعاداً حضارية متميزة عن (التخلف والعنف الإسلامي) هذا هو سياق معنى حديث دوكينز.
ويبدوا هذا الأمر غربياً في سياق القراءة الأولى، أو الاعتقاد الخاطئ، عن رحلة التنوير الغربي، التي تزامنت مع الحملة العالمية على عالم الجنوب، واعتقاد أنها حركة حداثة منقطعة الجذور، عن التاريخ المسيحي، فوفقاً لهذه الرؤية قد يصدم اتباع دوكينز أو مخالفيه، أو المحايدين مع رؤية التمدد الإلحادي الجديد، كنوع من التبشير الحر في عالم القيود الدينية.
ونذكّر هنا بأن إجمال التعبير عن مرحلة التنوير الغربي، ودمجه في سياق واحد ليس دقيقاً، فقد حضرت الروح والإيمان الديني، في حركة التنوير، بعضه ملتبس بعصبية الذات المسيحية، وبعضه كان يتلمس دلائل الروح، التي تسري في قصة الوجود البشري، ولم يمكن له إنكارها، وبعضه كان متأثراً ببعض نصوص (الكتاب المقدس)، غير أن انتقال أوروبا والغرب القديم، إلى زمن الحداثة وثورتها الرأسمالية، ومغادرة امبراطوريات الكنيسة القديمة، لم ينفصل عن فكرة التفوق الديني العرقي.
فحركة التبشير ظلت مصاحبة، للزحف العسكري والسياسي، ولم تنقطع بعد الحملات (الصليبية)، رغم أن النظم السياسية التي خُلقت بعد الثورات كانت في صراع مع مفهوم الحياة الكنسية، ومشروع الشراكة بين القيصر والقسيس، غير أن روح المسيحي الغربي، عبرت مع المستوطنات الاستعمارية، وجيوش الثورات الغربية الحديثة، واستمرت المذابح تفتك بالسكان الأصليين، ولم يكن الأمر مختصاً بأمريكا الشمالية والهنود الحمر، ولكن الإبادة الأوربية اعتمدت أيضاً، على شرعية إبادة الإنسان الآخر في عالم الجنوب.
ففي شرق آسيا وآسيا الهندية، وفي الوطن العربي، وصولاً إلى فظائع المستعمر في افريقيا، كان يسير برنامجه في ذات المشروع، الذي اعتمد على هذا التصنيف، وأحقية العالم الغربي في الهيمنة والإبادة المتطلبة لها، لاحظ هنا أن الاستعمار الفرنسي للجزائر، كما هو الاحتلال الإيطالي لليبيا، مورس من مذهبين غربيين حديثين اللبرالية الغربية والفاشية، لكن المحصلة لهما في كلا القطرين واحدة، ثم وسّع النظر إلى بقية العالم، ستجد نفس النتيجة.
لقد ظلت الكنائس التي تجدها شاخصة في كل مدينة غربية، في أمريكا الشمالية وفي أوروبا، حاضرة في المشروع الكولونيالي الجديد، وملتبسة بالاستشراق كفكر وبالزحف العسكري والسياسي، وقصة الحضور المسيحي في الذات الغربية، يختلف تماماً عن تصور البعض، بأن الغرب وحتى هذه الساعة، عالم ملحد مادي منقطع عن جذوره، وشرح هذا الأمر يطول، لكن النزعة التي ارتفعت في توله دوكينز، تشير لعمق هذا الصدى.
وهو صدىً ليس سلبياً بالضرورة في كل حالاته، فله تموضع خاص في التاريخ الاجتماعي الديني، يُفهم عبر عرض كل صوره ومساراتها، دون أن نهوّن من دور الغرب الحديث، في صناعة الحداثة المادية المطلقة، وإسقاط الأخلاق الاجتماعية، وصولا إلى عالم التفاهة، فمع ذالك كله، فإن الضمير الديني الغربي، لم يقتلع من جذوره.
غير أن مسارنا الحالي هنا، هو استدعائه في لحظات صراع الحضارات، العنيف والأقوى، ولذلك فإن عودة هذا الضمير الديني للذات الملحدة، هو في الحقيقة يستدعي هويتها الفارقة، عن بقية الأمم، وفي ذات اللحظة تنتفض خشية من حضارة الإسلام العائدة، ليس من خلال إحسان المسلمين، الذين تخلفوا عن سياق مركزهم الأخلاقي، وتلاعبت بهم نظم الاستبداد، ونقلوا الصراع الاجتماعي والمذهبي، والنزاع في مؤسساتهم الإسلامية حتى في الغرب.
ولكن في ثنائية دور الإيمان الروحي في صمود الفرد، ودور الإسلام، في تحريك عجلة العمران ببعد طهراني أخلاقي، يُنصف الذات الإنسانية، ولا يقوم في أصل فسلفته، على عقيدة تقدم، فميزان التقوى الذي يُميّز به المؤمن، لا ينزع حق الكرامة الفردية من غير المسلمين.
إن اضطرار ريتشارد دوكينز لمهاجمة الإسلام كدين (عنيف غير حضاري)، هو أمرٌ مضحك وسخيف، وخاصة حين نستدعي اليوم قصة الغزو الموثق يقينياً، بين عالم الجنوب والشمال، فمن قام بهذه الحملات ومن حارب الآخر؟
ودعونا هنا نستحضر تياراً آخر مواجه لتيار دوكينز، وهو اليمين المسيحي المحافظ في أمريكا الشمالية، ومن أبرز من يمثله د. جوردان بيترسون فيلسوف علم النفس في كندا، فبيترسون يتبنى أيضاً ذات الميزان والاستعلاء التقدمي، ويرفض بشدة اعتبار الإسلام كمقابل حضاري، فضلاً عن جدله مع الآخرين، في موقفه ضد الاعتراف بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبرسالته كأحد الأديان.
إن رابط هجوم بيترسون، على الحضارة الإسلامية، وأنها حضارة عنف وتخلف، يعلنها كجذر ديني لأمته المسيحية الغربية، مقابل الأمة الأخرى، فيما يعلن دوكينز نفس التصنيف للحضارة الإسلامية، ويحتج كليهما بتميّز الحضارة المسيحية.
ونحن نتحدث اليوم عن الألفية الثالثة، بعد رحلة تأسيس للمفاهيم الإنسانية المشتركة، ومنظمة الأمم المتحدة، والمحكمة الدولية وغيرها، ومع ذالك يعود التبرير العقائدي، وتنطلق آلة الإبادة المدعومة من الغرب السياسي، الذي أسس المنظومة الدولية! العاجزة أو الشريكة في نموذج إبادة غزة، الذي ينفجر فيه الضمير الغربي المنصف، وهو يشهد كل يوم، بل كل ساعة أحياناً، وجبة ذبح وإبادة تشوى فيها أشلاء الأطفال.
وإعلان نتانياهو المتكرر، أن الفكرة المتوحشة مع الغرب هي عقيدة مشتركة، ليردَّ على بعض الأصوات المطالبة له بضبط هذه الإبادة، التي لم يوقفها السياسي الغربي أصلاً، له تاريخ موثق في موقف الحركة الصهيونية، عبر تصريحات مؤسسيها، الذين برروا مبكراً لعقيدة الإبادة المشتركة مع الحداثة.
بقي أن اذكر بحقيقة تاريخية مهمة، وهي أن أبرز قادة الحركة الصهيونية، كانوا ملحدين وكان هرتزل وغيره يسخر من الدين، ومع ذالك استثمروا في جماعات لاهوت يهودي، تقيم الهيكل المزعوم على اشلاء أطفال السكان الأصليين، وهم ذاتهم من ساعد الغرب القديم، في ترويع اليهود لحملهم على الهجرة لفلسطين.