حقيقة جوهر جورج صليبا
مهنا الحبيل
أحياناً تقفز بك عشوائية وفوضى اليوتيوب إلى مواد مهمة، لم تسمع عنها ولم يَعبُر عليك حديث حولها، ولم يقترحها عليك صديق، هذه المرة حملتني جولة اليوتيوب العشوائية إلى قناة الجوهر (الكويتية) هل هي كويتية كما يظهر، أعتقد ذلك.
لأنها بدات بشباب لبناني يحاور مفكرين أو مثقفين في جلسات عصف ذهني، ثم انتقلت إلى شباب كويتي يحاور في ذات المجال، وكلا الصالونين جميلين كمادة حوار فكري أو ثقافي أو صحافي، عموماً برز لدي جلسة حوارية نفذتها القناة مع د. جورج صليبا، والتعريف العام للدكتور جورج صليبا، هو أنهُ من أبرز المفكرين العرب، الذين عَنوا بجدل الحضارات، وبالخصوص قصة التاريخ والعلوم، بين أوروبا وبين الحضارة الإسلامية.
ومرة أخرى يعود المسيحيين العرب وفي مقاعد جامعة كولومبيا المهمة، إلى زخم الحوار العالمي، ولنقل الشرعية الأخلاقية في تاريخ الحضارات، وجورج صليبا ليس طارئاً جديداً، على هذه الساحة وجدلها الساخن، فمهمته نضجت منذ 1996، ببروز اسمه كباحث في تاريخ الفلك بين الضفة الإسلامية والعالم الغربي الحديث، وجذوره في أوروبا القديمة، فهو يأتي بين إدوارد سعيد ووائل حلاق، وإن كنت أحسب أن لكل منهم، سلاحه الخاص في التحرير الفكري والفلسفي.
فمن زاوية كولونيالية ثقافية سياسية عني بها إدوارد سعيد في معركته، ومن منطلق أخلاقي فلسفي أبحر بها وائل حلاق، في حين تنزع رحلة صليبا في سياق العلوم الكونية، وتاريخ نشأتها وبالذات الفلك، وفلسفته الروحية بين الغرب والمسلمين.
وهنا اتحفظ شخصياً على رأيي في د. صليبا، لكوني لم اتفرغ لقراءة منظومته الرئيسية، وهو اليوم قد تجاوز الثمانين ندعو له بالصحة والعمر المديد، ولكننا نشعر بتقدير بالغ أمام هذه النخبة من المسيحيين العرب، الذين رفضوا مسألة الدمج القهري في ثقافة العالم الحديث، وتحرروا من فكر الهزيمة لتبعية المنجر العلمي والغرق الحضاري في الغرب، والتي تاجر عبرها ومع الأسف الشديد شخصيات مسلمة، قررت العبور الى منطقة الضوء بمناسخة الغرب، وبتحقير العلوم والمنتج الحضاري الإسلامي، للحصول على رخصة الشهرة في الرواق الاكاديمي الغربي، ثم تصدير منتجهم المقلّد من جديد للمشرق.
وجورج صليبا سدّد ايضاً ضريبة التحرر الفكري، وناوشته القوة الإسرائيلية المتطرفة، التي تتخذ من المنظومة الأكاديمية ساحة حرب، لمنع المعرفة الحرة، وخاصة حين يقارب جدلها ثنائية التفوق العرقي وعلاقته بالفكرة الصهيونية، والجذور (التقدمية) للشعوب الغربية، فاتهم بالعداء للسامية، فكرة كنا نظن أننا في زمن محاسبتها الفلسفي، فاتضح أنها مشروع شراكة حيوية لا تزال تصب في حرب إبادة غزة اليوم، ثم كشفت ملحمة غزة لنا، قضية المصالح الاقتصادية الكبرى، وتنمية مجالات البحوث في الأسلحة، والمواد العلمية ذات العلاقة، وحجم تورط الجامعات الغربية وخاصة في أمريكا الشمالية فيها.
كان الحوار بسيطاً وعفوياً، وكان الشباب وهم قلة، من اديان واتجاهات لبنانية مختلفة، خارج الإسلام من الأسرة العربية اللبنانية، مع زميل مسلم معهم، وجيد أن تكون الطاولة صريحة وعفوية، طرح فيها الشباب المسيحي من لبنان أسئلته عن تاريخ المسلمين وعالم الفكرة فيه.
وأود هنا أن أعلق على مسألة مهمة، وهو أن نتعامل مع مساحة البحث والاختلاف، سواءً كانت من الشباب العربي المسيحي، أو من الشباب المسلم المتشكك، بروح هادئة منفتحة، تدرك أن قناعة الأنفس وقرارات العقل، هي أمور تقوم على الإيمان الطوعي وليس على المشاحنة والتحريض، الله عز وجل أعطى حرية القرار فيها، بنصه المقدس في القرآن، وأن أصول طاولة الحوار الفلسفي والفكري، لها شروط تسمح للآخر بعرض فكره، دون انتقاص منه، ما دام يطرح بصورة علمية لا تحريضية أو تجديف سلوكي قبيح.
وهذه مسؤولية أخلاقية وأمانة من قِبل المفكر المحاور، فإما أن يكون أهلاً لها، أو ألا يتقدم لمنصتها.
في حالة قناة الجوهر الضيف مسيحي، وبدأ حديثه بمقولة ساخرة متواضعة من ذاته، وبلهجة لبنانية بسيطة، (أنا آخر واحد بيحق له يتكلم عن الإسلام في هيك مواضيع، اسمي جورج وصليبا كمان) وخلافاً لما قد يعتقده البعض، عبر جورج صليبا، إلى كل مساحات الفراغ المتخيلة عن تاريخ الحضارة الإسلامية، وقدّم لها قراءة معرفية بديعة، ولم يكن مضطراً أبداً لهذا النزوع، لولا أنها، قناعته الشخصية التي تقرأها بين عينيه، قبل حديثه السهل الممتع.
والقراءة التي قدمها عن منتج الإمام الغزالي، وكونه إمام متقدم في الفلسفة، والتعريج على جوهر الروح في فلسفة الغزالي، لم تكن لتصدر إلا من شخصية متمكنة البحث والعمق، في سر فلسفة الغزالي، وأن فلسفة الروح التي أغرق فيها الإمام، كانت لنزعة أخلاقية ذاتية، انطلقت من ركن معيب وجده في ميراث الفلسفة الغربية وكهنوتية اللاهوت المضطربة، والتي هاجم عبرها الفلاسفة المسلمون اللذين خاضوا في مسار هذه الفلسفة اليونانية، وميراث سقراط الكبير ومدرسته.
وهذا المدار لي شخصيا رؤية خاصة فيه، لا يسعني عرضها هنا، وهي من مطولات البحوث الفكرية، وكيف نفهم روح الإمام الغزالي بإنصاف، لكنه فهم لا يُسقط ضرورة نقده رحمه الله، ولكن هذا الجانب الأخلاقي الروحي الذي سيطر على حديث د. صليبا، أظهر لنا منهجا يكشف جوهره وياله من جوهر، فشكراً له بحجم حبنا للبنان وأَرزه.