من يراقب أخلاق المجتمع؟

مهنا الحبيل

قوّموا آراء الناس تروا أخلاقها تُصفّي نفسها بنفسها.

جان جاك روسو

يَعبر روسو في خاتمة فصوله إلى تدعيم رقابة المجتمع، في سبيل تحفيز الذات الإصلاحية المسؤولة، بعد أن أمضى مناقشاته العميقة للصيغ التنفيذية التي تُعلن فيها السُلطة، بناءً على العقد الاجتماعي، وهو ما رأينا فيه محاولة معقّدة من روسو، لصناعة نظام ديمقراطي مختلف، قد يتناقض مع بعض صور الديمقراطية (النموذجية)، في تقديرات الزمن اللاحق لتنوير روسو، وقد مثّل روسو أحد أركان بعثها.

غير أن منظومة الحكم الشعبي القائم على الإرادة العامة، تأرجحت عند روسو، وتداخلت مع صيغ ارستقراطية أحياناً، من حيث ضمان تثبيت الدعائم القانونية، أو ديمقراطية (الهمجية الشعبية) التي استقاها من تاريخ روما القديم وأسبارطة، وكان العمق الذي جذبه فيها، هو نزول الشعب الى الميادين العامة والساحات، لانتزاع الحكم خشية خروجه عن الإرادة العامة.

أو النزول العنيف للشعب، لتصحيح مسار السلطة التنفيذية، وهو يخالف في هذا التوجه، موقف سقراط وأفلاطون الذي عكسه الأخير في جمهوريته -كتاب افلاطون 380 قبل الميلاد -، وكان افلاطون وشيخه سقراط، يرون في نموذج الديمقراطية الشعبية (الهمجية) عواراً اصلياً، يُصدّر فيه السوقة، وتُسقَط فيه عقول النبلاء وحِكَمُ الفلاسفة.

ولكن روسو بقيت لديه هذه الروح الميّالة للديمقراطية الشعبية، بسبب موقفه مما عايشه من فساد النخبة الأرستقراطية في جنيف وفرنسا، وإن أبقى للأرستقراطية مساحة، تُقدّر بطبيعة البلد والمجتمعات، وعليه فإن البناء الذي انشأه روسو، في شروط سلامة الدولة وتحقيق المشاركة الشعبية، وخاصة تأصيله لفصل السلطات، الذي ساعد على إعادة تنظيم فلسفة النموذج الديمقراطي، بين التاريخ القديم والأوسط ثم المعاصر، وهو ما يُسهّل فهم حصيلة روسو، في نقد النموذج الديمقراطي، ثم وضع أسسٍ تَبعثُ نظام مشاركة شعبية قوية، ناقشناها سابقاً.

وهو يَعبُر بعد ذلك إلى أحد أهم ركائز ما يُمكن أن نطلق عليه، العبور الديمقراطي المُحدّث، والانتقال إلى عهد سيادة شعبية معززة بالقوانين الضامنة، ولذلك شدّد على أن اعلان الإرادة العامة يتم بالقانون، فتُمثل القوانين الكبرى ضمير هذه الإرادة، ولكن هذه الإرادة تحتاج إلى مرجع أخلاقي، يستدعي فيه روسو عقيدته المعروفة في الطبيعة.

فكيف نقيس على واقع المجتمعات التي تهتدي الى أخلاق الفطرة، وأين هي من مذهب روسو الطبيعي، هذه قضية مهمة تتناوشها نزعات روسو المتعددة، ولكنه يُحدد أيضاً ثبات المعيار والذوق الأخلاقي، من خلال ايمان المجتمع ذاته بمنظومة الأخلاق، وأنها تؤسس بالشرائع، لكن بقائها وتعزيزها يحال إلى المجتمع ذاته، فالقوانين لن تصمد اذا انحلت الاخلاق، كما عبّر روسو.

       وهنا مسار أساسي متداخل مع ركن الرسالة الإسلامية، في تخليق الذات والمجتمع، وهي المكانة المُصدّرة في خطاب الرسالة، كون أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد بُعث متمماً لمكارم الأخلاق، فهي أخلاق شاملة للمجتمع والفرد، سلوكية وتشريعية، فمرجعها في الوحي ثابت.

 انظر هنا الى مفاهيم تحريم الغيبة والنميمة، والتغليظ على الكذب والتزوير والغش، والتشديد على قيام كل مسؤول بأمانته الوظيفية والاقتصادية، وأن يُتقن عمله، أكان موظفاً بسيطاً، أو عاملاً في حقل أو مصنع أو أي مهنة كانت، أو مسؤولاً كبيراً، فالندب للصدق والإتقان عام لكل فرد.

       وكارثة المسلمين كانت ولا تزال في تعطيل البعد الأخلاقي، واستدعاء العكس في سلوكهم، فأينما حلت أخلاق المسلم في بعثه الأول، من ماليزيا إلى الأندلس إلى افريقيا وجد الإنسان الآخر سر البعث الروحي، الذي تفاعل في العهود القديمة للرسالة، قبل أن يسقط العالم الجديد الذي أضاءه الإسلام في الأرض بعد البعثة، حين انطفئ في داخل المسلمين ذاتهم.

       هذه الروح هي التي تُعبّر عن سيادة المجتمع الأخلاقي التي حددها روسو، قبل أن تنحت في نظامه، غير أن العجز الذاتي، يحتاج إلى أن يُقوّم المجتمع عبر نظامه القانوني، وهذا معنى قول روسو، تُشتق آراء الشعب من نظامه، فهو يجعل هذه الأخلاق مدار الرقابة الأساسية، حتى لا تطغى روح الفساد والمصلحة على ضمير الفرد، فينتكس المجتمع.

ولذلك يظل الفراغ قائماً، وإن نجح الغرب في تثبيت الأخلاق الإدارية، التي تعتمد على مصلحة مادية مقابلة، ولكن حينما تختل موازين المصالح المادية، يُلاحظ اندلاع حالات فوضى ومصادمات شرسة، بسبب غياب الوازع الضميري، في حين ساءت أحوال الشرق المسلم، لتضييعه كلا المسارين الضمير الإسلامي للأخلاق، والقانون الأخلاقي الإداري الرادع.

       ومع أن روسو يُدرج فصل الرقابة من خلال إطار مَحكَمةٍ مفوّضة، غير أن المفهوم الذي تناوله يتداخل مع مسارات عديدة لدور الرقابة، وإن كانت تميل في هذا الفصل، إلى الميدان الاجتماعي، وعلاقات الشعب ومبادئه العامة.