أهلية الشعوب للديمقراطية

مهنا الحبيل

أيتها الشعوب الحُرة اذكري هذا القول الجامع: يمكن اكتساب الحرية، ولكنها لا تسترد مطلقاً.
جان جاك روسو

نستطيع القول بأن روسو، شكّل انعطافة مهمة ونوعية في علم الاجتماع السياسي، فتحريراته في الفصل الثامن من الباب الثاني، للعقد الاجتماعي، حول أهلية الشعوب لتحمُل أو ممارسة القوانين الصالحة، هي بحد ذاتها فرعٌ مركزي تحتاجه البشرية اليوم، وتبيين دور هذه الأهلية في تحقيق الإنتقالة إلى الحكم الرشيد، ولا نقول الانتقال الديمقراطي، ونبني على ما قدمناه موافقاً أو مخالفاً لروسو، في أن قاعدة الحكم على الشيء هنا، هو تمتع الشعوب بأقصى مساحة، من العدالة المؤدية إلى خماسية الدولة الحديثة المطمئنة، والتي يتحصل عليها الشعب في النهاية، المشاركة الشعبية، وحريات التعبير السياسية، وسيادة القانون القضائي العادل، وتوزيع الثروة، والنظام القيمي الأخلاقي.
فهذه المسارات التي تتضمن مرجعية عُليا للشعب، في التشريعات، ومشاركة مركزية في مراقبة الحكم، تفضي بالضرورة حين تُستكمل، إلى قيام الحكم الرشيد، وأما مسمى الانتقال الديمقراطي، فهو مجموعة من السلوكيات والأنظمة والممارسات السياسية، في الدولة الحديثة، تدور فيها انتخابات، وتُمثّل فيها نقابات، وقد تنتشر فيها صحافة سياسية جدلية حرة، لكنها مع كل ذلك، لا تفضي بالضرورة إلى دولة الحكم الرشيد.
التي يجد فيها الشعب حقوقه ويراقب الحكم بمستوى شفافية عُليا، وذكرنا سابقاً دور الضمير الديني، في هيئة الحكم والتشريع، حين يكون ذو مصداقية حقيقية، لا ادعاءً لاهوتياً مزيفاً، في دعم الروح الأخلاقية للحكم، ثم ذكرنا، دور مطلق النص الإلهي ومقاصده، في نموذج الشريعة الإسلامية، للوصول لأعلى درجات العمران الاجتماعي، الذي تحيى به الشعوب، وتُحيي حياتها به.
هنا يطرح روسو تساؤلات تتجاوز الحفريات الاجتماعية، في طبائع النفس، إلى تجارب التاريخ وتوثيقاته، وتعرضُ بوضوح سؤال القصور في الشعوب، ومناقشة هذا القصور يختلف عن استثمار الاستبداد في الشرق، بحجة نقص الوعي الشعبي، والتعامل مع تداول الحكم، وبالتالي تعطيل مشاركته الشعبية.
ولكنه قصورٌ في واقع الشعب ذاته لا حقوقه، من خلال مستوى رسوخ المفاهيم لديه، وتمكن دورات ذوي النفوذ والفاسدين، من استخدام وسائط الحرية والمشاركة الشعبية، إلى مشاريع انقلاب ضد آمال الشعوب، وحقوقها، ولذلك تُفهم كلمة روسو الرائعة، في نصيحته للشعوب الحرة، في هذا السياق، وقد أوردها في حديثه عن ضعف أهلية الشعوب، فدورة الكفاح حين تكتسب شروط الحرية، هي في الحقيقة تحقق مستوى أول، ولكنه هش، لا يكتمل إلا بعد اندماج وعي الشعوب مع القوانين الصالحة له، والضامنة لسيادته واستقرار وطنه.
ما هي هذه القوانين وكيف تتشكل؟
المشترك مع روسو هنا، هو أن التمسك بدورات تشريع سريعة، قبل نضج الإرادة العامة، هو ذاته قد يُفضي لسحق دورة الكفاح، وأن المزايدة باسم وعي الشعب المطلق، قبل ترصيف قوة حق تضمن بقاء صوته السياسي وهيئته في مراقبة الدولة، قد يتحول الى حصان طروادة، ينتصر فيه الفاسدين الظلمة.
ولذلك يطرح روسو نماذج الشعوب، التي من بينها من تمكنت منه العادات والأوهام، ويَصعُبُ إصلاحه، فهو يحتاج الى دورات شبابية، ثم يعود مرة أخرى ليشيد بإسبارطه، وهولندا وسويسرا في أعقاب خروجهم من تجارب مُرّة مع الطغاة في زمن روسو، وتحول دورات الصراع بعد حروب أهلية، إلى أدوار دولة ناجية ناجحة، وهي نماذج نقول من جديد أنها تحتاج الى مراجعة.
وقول روسو بأن هذه الانهيارات قد لا يخرج منها الشعب، وقد تبيد بعض الشعوب، أو تتركهم في مستنقع من فشل الدولة أو سيولتها، هو رأي مهم نجد نماذجه، فيما بعد الربيع العربي، وفي دول أخرى من عالم الجنوب، حتى أن روسو يقول أن هذه الانهيارات ستحتاج حينها لحاكم منقذ (أياً كان)، لا سيّداً مكتمل الهيئة التشريعية والإرادة الشعبية.
مقياس روسو هنا، هو نفس الميزان الذي عرضنا له سابقاً، في موقف علماء الشريعة من خشية الفوضى العامة، والحروب التي قد يترتب عليها، صراعات دموية أهلية كبرى، في حين وقف أولئك العلماء بين فسطاطين، المنحرف الذي ظل يزكي شرعية المستبد ومظالمهم، والثاني الرشيد، الذي يدفع للإصلاح ومواجهة المستبد الظالم، حتى لو أدى كفاح الكلمة والموقف والنضال المدني، إلى مقتله أو الإضرار به.
العجيب أن روسو يرى أن بعض الشعوب قد يحتاج إصلاحها، إلى عشرة قرون وهذا تعسّفٌ جلي، لكنه يُفهم في سياق حديثه عن طبائع الشعوب، فمنها من يُحسن أن يُقاد ويتفاعل، في زمن توحشه، ولكن حين يركن الى الحياة المدنية، فهو يعجز عن مواصلة هذا التفاعل والانقياد، وهي مرة أخرى ملاحظات مهمة لروسو في طبائع الشعوب، غير أن ميزاننا في نقده هو طريق تعاطي السلطة الحاكمة، وملخصها في رد عمر ابن عبد العزيز على قول أحد الولاة: بأن القمع يُصلح الرعية، فقال له عمر: كذبت، بل يصلحها العدل.
وقد لفت نظري مقولة روسو، بأن بعض الشعوب لا تُطيق، مجرد مس علل أمراضها، وهو أمرٌ قد يُرصد في تأملات أحوال بعض الشعوب، حين يشار الى العصبيات القاتلة، أو جاهليات متفشية في المجتمع، تفزع للموروث الظالم والمنحرف، بدلاً من النظام الإصلاحي، كل ذلك من فقه الدولة والثورة التي تحتاج وعيها، نخب الإصلاح، في الطريق للعبور إلى الحكم الرشيد.
إن هذه الأهلية مهمة لفهم، واقع الصراعات في الأقطار العربية اليوم، وعودة المستبدين بتصويت شعبي، انقلب على حق الناس في المشاركة الشعبية ونزاهة الحكم، وأصبح الفساد والقمع عقيدة راسخة للنظام، ولا يزال يتمتع بشعبية تمنع الناس من دعم الإصلاح، رغم أن فرص الحرية في التصويت لو عادت، قد تُغيّر المعادلة، غير أن نجاح النظام العميق في سرقة القرار الأول بصوت الشعب، قطع الطريق.