مهنا الحبيل

يحاول روسو أن يدخل على نقد النظام الملكي الذي واجه نموذجه في فرنسا، من خلال مفاهيم ضبط ودمج السلطات في عهدة رجل واحد هو الملك، والمدخل هنا يبدو إيجابياً؛ فهنا تُحوّل كل الإرادات إلى قبضة غرض واحد بيد الملك، فيُدير الأمر بسهولة دون نزاع أحد.

يستدعي روسو هنا قصة أرخميدس في خيال جديد، وهو من أكبر علماء الفلك والهندسة والرياضيات في العهد اليوناني القديم، وكان مستشاراً للملك هيرو الثاني الذي حكم سرقوسة. ولم يكن هذا الاستدعاء في إطار نقاش نظرية في الحكم، وإنما يظهر لنا من تصدير قصة أرخميدس عبر خيال روسو أنه يُهندس كل شيء في المملكة مترامية الأطراف، فيدير الملك كل ذلك من غرفته، وهي صورة يقدمها روسو كخطاب ساخر، من ربط كل السلطات والتشريعات بفرد واحد، يديرها كالإله.

وهو يعلق على ذلك بأن ربط كل الأغراض العامة والخاصة بشخص واحد هو (الملك) عملية سهلة، لكنها تحقق غرض هذا الفرد، لا السعادة العامة للشعب، كما أنها تنال من قوة الدولة فهي مجحفة بها، ولذلك يتدرج بعد هذا الاستهلال في سرد عيوب الملكية الشمولية، أي التي ليس معها جهات تفويض للمراقبة والمحاسبة، وحتى إن وجدت فهي تخضع لهوى الملك وغرضه. ثم يقول روسو هنا إن الملوك يُحبون أن يُنشر عنهم بأن سر تفوقهم محبة الناس لهم، ويُطنَب في مدح هذا الجانب وتزكيته.

هنا يبدو لنا كأن روسو يبعث برسالة أو يسعى لتخفيف نقده، أمام نفوذ الملكية القائمة في فرنسا ذلك الوقت، فسياق خطابه يشير لهذا، ويعقبه قوله إن هذا المبدأ الرائع- أي التحبب للرعايا بخدمتهم من الملك- لا يُقبل في البلاط ولا في جوقة الأمراء، وهو المدخل الثاني لهدف روسو، فحب الرعية القائم على العدل، لا يُرضي الأمراء.

 ثم يهوي على نماذج الغالبية من الملوك، فهم (الخبثاء) الذين لا يرون قوة الشعب وازدهاره قوة لهم، بل- على العكس- يربطون ضعفه بخدمة مصالحهم الشخصية، وتوسيع تكيَّتهم.. انظر هنا في عالم اليوم في الوطن العربي وغيره، وتأمل في هذا المسار، رغم أنهُ قد يكون ملكياً دون أن يُسمى ملكاً، بل زعيماً جمهورياً، يمارس كل صلاحيات الملك الشمولي الخبيث.

ويعتذر روسو لميكيافيلي بأنه رجل فاضل نبيل، وأن نصوص كتاب الأمير، وما قرئ كنفعية سياسية قاسية فيه لصالح السلطة، كان تحت ضغط آل ميديشي، حكام فلورنسا، ويرى أن كتابه كان موجهاً للشعوب، وأن رسائله للجمهوريين أكثر من أن تكون للملكيين، ولكنه- بحسب روسو- يحتاج لقراء غير سطحيين.

المهم هنا في أن روسو يعود ثورياً، كطبيعته وقصة كفاحه الفكري في مواجهة السلطة الظالمة، والتي تقفز فيها الملكية الشمولية كأسوأ منظومة ترتع تحت مصالح الأمراء والبلاط ونوايا الملك الخبيث، وإن كان روسو يرى أهمية ملء الطبقة الوسطى في الحكم، لتخفيف مركزية الملك، والقرب من الرعية، لكنه يعود إلى إشكالية فساد الحاشية ورجال البلاط.

ويعزز روسو نقده لصالح الحكومة الشعبية أمام الحكومة الملكية، بأن وسطاء البلاغ لرؤى الشعب في الملكية الدستورية أو الجمهورية- التي يُطلق عليها حكومة شعبية- هم شخصيات ذات نبل وفهم وإخلاص.. في حين تجمع حاشية الملوك صغار (الشُطّار) من ذوي الدسائس والمفسدين، وهي قاعدة يمكن أن نراها قائمة فيما نشهده من أحوال الممالك حتى اليوم، ويمكن أن نرى كسراً لها في بعض الشخصيات. غير أن ما يدعم روسو هنا، هو شهوة الملوك ونزعتهم المتضخمة في حب التملق والنفاق، الصفة التي تجعل من يتخلقون بها تقرب منزلتهم وتعظم مكانتهم عند الملوك الفاسدين كلما ازدادوا انحطاطا.

ويطرح روسو هنا مسألة مهمة، أن الفتح- هكذا سمّاه، أي دخول الدول استعماراً أو غزواً أو ضماً- أيسر بكثير من إدارة المناطق الواسعة، وأن قوة الحاكم وصلاحه يبرزان في الإدارة وخاصة حين يزداد توسع الدولة، وربما هذا المثال لا يختص بأوروبا، بل هو في التاريخ الإسلامي، وحقب الانحطاط بين العباسيين والعثمانيين.

ويُشدد روسو على آفة التوريث في الحكم، وأن المحاذير التي يُخشى منها بسبب الانتخابات للملوك أو الحكام، من فوضى أو صراع أو دسائس، هي ذاتها قد تطرأ على الحكم الوراثي، فيرفع هنا دعوته بقوة بأنه يجب ألا يتردد شعب فرنسا وجنيف، التي يخاطبها روسو، في القبول بالمغامرة بالحكم الجمهوري، بناء على هذه المخاوف، وألا يُتورط مع الحكم الملكي الشمولي.

غير أن سؤال الفرق الذي لا يزال قائما هو في اختلاف نموذج باريس عن لندن، هو أيّ التجربتين أرشد وأفضل للشعب، الملكية الدستورية التي خضعت للانتخابات، أم النظام الجمهوري المطلق.. أيهما اليوم تشير لها الدلائل بالتفوق أو الإخفاق؟

ومع ذلك، فإن روسو يعود لمسألة تأهيل الأمراء كخلفاء محتملين للملوك، وهنا نستدعي للضرورة رسائله في كتاب “إميل”، إذ إن روسو يقول في “العقد الاجتماعي” إن قضية التأهيل مرتبطة بالتربية لا بالتعليم، وكأنه يربطنا هنا بقصته مع إميل، وأن أحد أغراضها التنشئة الحقوقية الفطرية الصالحة. ربما يُفسّر ذلك أن روسو اختار أن يكون إميل اليتيم، الذي ترك له أبوه ثروة، من طبقة النبلاء، وكيف كان روسو مسكوناً بهدفه الكبير لحياته وكفاحه الفكري.

ويُدلل روسو من جديد على أزمة الحكم الشمولي بتقلُّب آراء الملك، أو الأمير، وتذبذب مشاريعه، وهذا لا يتحقق عند وجود حكومة اشتراعية، تضبط مسيرتها رقابة (السِنات) المشرعين، والحقيقة أن ذلك رأي صحيح، حين تكون هناك مساحة صلاحيات وحريات للمشرع، لا أسماء وهمية تسمعك جعجعة ولا ترى طحناً.. لكنه ملحظ مهم لروسو في إشكاليات حكم الفرد المطلق.

ويُبدع روسو في الختام وهو يعرض أزمة تاريخ أوروبا في القرون الوسطى، بوعظ الشعوب للصبر على ظلم وفساد الحكام، ويقول ذلك وهو يوجه حديثه لمنظري السياسة وعلم الاجتماع والقانون، ويُمثلُ بطبيبٍ كل حصيلته أن يوصي المرضى بالصبر دون أن يصف لهم دواء، أو أن يستأصل سبب المرض، وأصل عارضه.

 ويالها من رسالة نجدها اليوم، في زمن الانحطاط وتزكية الحكام الطغاة في العالم الإسلامي، وتقريع الشعوب وتوبيخها، مع طلب الصبر، وإنها لمفارقة أن منهج التشريع الإسلامي الذي سار عليه أئمة الفقه الكبار، وخاصة أبو حنيفة النعمان، ومن قبله ومن بعده، اتفق معهم روسو بأن مقارعة الظلمة، والوقوف مع الشعب في حقوقه، هو الدواء الواجب لكف الملوك الظلمة، أو- على الأقل- بقاء المدافَعة المدنية لبغيهم.