أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية

مهنا الحبيل

هل توقفت يوماً عند ذلك الطفل، الذي رأيته ذات مرة قد انتابته حالة قلق وغضب، ودوامة من ألم، تشعر أنه يعتصره في حراكه الحاد ثم تنظر إلى عينيه، يريدُ أن يوصِل الرسالة، ولكن لا يجد من يفهمه، أو يتوقّف عنده، إلاّ أسرته المغلوبة على أمرها، بسبب ضعف إمكانياتها، حتى إن كانت الأسرة في قلب الرعاية لصاحب الظرف، لكن المجتمع لا يُعينها لفهم هذا الطفل، من أسرة التوحّد أو التخلف الوراثي أو غيرهم، وكم من نماذج من حولنا، طوتهم إعاقتهم البصرية أو السمعية فسقطوا في عالم الكآبة الموحش؟

  هل تصورت لحظة أن ينقطع العالم عن الاتصال بك، ولا يفهم لغتك، وكأنّك تعيش في ظرف مكاني وزماني، وتتعامل مع صور أشباح؟

إنها صورة عنيفة على الوجدان، ومعاناة إنسانية هائلة، لا يمكن أن نُجسدّها إلاّ بجزءٍ من تَلمّس المعاناة، وسيبقى الإدراك القريب، لا يصل إلى الوضع الحقيقي المؤلم بحسب ما يعيشه المعاق.

 فكم من الجهد والألم والاضطراب، الذي تعيشه أسرة المعاق، في سبيل أن تَعبر هذه الرحلة الزمنية الصعبة، مرافقة لذوي الظروف، حتى تَخلق لهم بيئة التحسن والاتصال لحياتهم، وكأنها تقولُ للنّاس بهدوء وهي تعتصر في وجدانها، أرجوكم انتبهوا لشركائكم في الحياة، لا تزدرونهم، ولا تشفقون عليهم انتقاصاً، ولكن كونوا معنا بابتسامة ومعايشة، شاركونا صناعة الحياة، لمن غلبت عليهم الأقدار، لعل الله يختبر بِرنا وإنسانيتنا ورحمتنا بنصفنا الآخر.

نعم انه النصف الآخر، فالنّاس إما أصحاء وإما معاقين وليس الأولان، بمفضلان على الآخرَين في مكانة التقوى والدين.

     كم هي لحظة الترقب لأصحاب الظرف الخاص، خشية من سقوطه أو جرحه أو إصابته، وكم هي نزعات الألم في قلب والديه، وذويه على مستقبله وخصوصاً سوء سلوك المجتمع أو لا مبالاته أو نظرات ازدرائه، وكم هي مهمة دفقات الأمل، تحيي البسمة وتمسح الدمعة للوالدين الحزينين، حين يختط صاحب الظرف طريقه، فيعبر الطفل البصير إلى عالم برايل الالكتروني، والأصم إلى الجهاز السمعي المطور والمتوحّد إلى طريق التربية الخاصة.

 إنهم يتخطّون الطريق الصعب، فلذات أكبادٍ يسيرون في تجاربهم الصعبة في الحياة، لكي يتصل بهم الأمل، فينتقل المشهد من المعاناة إلى استشراف المستقبل، الذي من مسئوليتنا أن نحمله حتى ينطلق، ومن مسئولية المجتمع أن يتضامن معه ومع أهله، يقف عنده مُشجّعا ومُباركاً لخطواته، ويحاول أن يتواصل معه بلغة الحب والعطف والتضامن، وإشعاره بالشراكة، دون التدخل المحرج، ووقود ذلك كله الابتسامة والتضامن.

       فهل يعجز المجتمع أن يبتسم ويُشجّع ذوي الظروف الخاصة، في لحظة من زمن يَعبر بها بين يديه، أو يكون قريباً منه فيسموا عند الله، وترتفع روحه الإنسانية، وهو يستحضر وصايا النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، حين يختار لنفسه أن يكون يد العطاء والرحمة، لا الجفاء والغلظة، وخاصة بأن أولئك الأبناء والإخوة والاخوات من أسرة (المعاقين) هم من قلب الرعاية الإلهية بالابتلاء، جاءنا البلاغ بتعظيم مصابرتهم، أفلا نقترب من قلوبهم، فنطلق ابتسامة ودعم معنوي ودعاء صادق، لتغشى المجتمع رحمة الرحمن الرحيم.

ودوماً خلال مشوار المشي الذي أمارسه في كندا، يحضر لدي مراعاة ذوي الظروف الخاصة، والتي تفتقد للكثير من التهيئة في بلداننا العربية، بل حتى الاستشعار بأصحاب الظرف، في الإعاقات والتوحد، قد لا يجد بعضهم أساسية الرعاية، فيما تعتني الدول الغربية، بهم من رصيف المشي، إلى التطبب والدعم المادي، وليس الأمر واحد في كل الدول الغربية، لكن هذا الجانب يحضر في نماذج منها، تُساعد الأسرة كثيراً، وتخفف عليها عبأ المعاناة.

هناك اختلاف في مستويات الرعاية بين الدول العربية، فبعضها قد تقدم في إجراءاته وقوانينه، وبعضه ذات النظام الاجتماعي المسؤول، هو عقبة الفساد الكأداء، التي ترهق صاحب الظرف الخاص وأهله، وكأنما البعض ينظر إلى مقالتي، بأنها نوع من الترف، بسبب الهاوية التي آلت إليها بعض الدول العربية، بعد مواسم الصراع السياسي والعسكري، وهذا مفهوم، لكننا متعبدون بالإحسان، وبحمل بعضنا بعضاً، وبأن تستمر محاولات دفع المؤسسات الرسمية للأحسن، لهذه الطبقات والشرائح المبتلاة، وأن نزرع حمل الهم في شبابنا في الأعمال التطوعية، والمجتمع بتثقيفه وتعزيز روح التلاحم فيه.

وقد يكون الأمر من خلال مفهوم بسيط، في هذه المعاني المشرقة للتضامن، وقد ذكر لي أحد الأخوة اليمنيين، أنهُ ما من مرة أراد أن يخرج فيها، مع والده الذي كان يُعالج في القاهرة، إلا تكاثر عليه شباب الحي، في حمل كرسي أبيه وفي دفعه، حتى يصل الى موقع الإقلال لسيارته، وهذه رغم بساطتها، نسمة عذبة تُحيي الأمل، في كل بلداننا العربية، لعلنا نسموا بإنسانيتنا المشرقة بنور الإسلام، وروعت تكافله الاجتماعي.