العودة لساعة الصفر عند بشار الأسد

مهنا الحبيل

 يكتسب هذا الموضوع أهمية بالغة مع حلقة بودكاست أثير (الجزيرة) التي عُرضت مؤخراً، وكان ضيفها أحمد الدالاتي القيادي البارز في إدارة العمليات العسكرية، التي قادت معركة تحرير سوريا ودخلت قواتها دمشق في الثامن من ديسمبر 2024 م، وفي هذا اللقاء والتحليل الذي نكتبه، إجابات دقيقة ومهمة لفهم اللحظات الأخيرة، من عمر النظام الإرهابي، والذي يترتب عليها فهم واقع القوى الإقليمية والدولية، لمستقبل سوريا الجديدة.

فحين التوقف عند مشهد الدولة السورية عند رحيل الأسد، اندفع الكثير إلى أسئلة الشك في الثورة، بحكم توقيت هجومها الذي تزامن مع فاجعة غزة، وقرار المركز الغربي وتل أبيب تحجيم النفوذ الإيراني، بعد أن استُهلك في مراحل سابقة لسنا هنا في صدد العودة الى تحليلها.

      فيما يشير حديث القائد العسكري في المعركة أحمد الدالاتي، الى أن خطتهم التي أُعد لها من سنوات، استبقت حرب إبادة ادلب والشمال السوري، والتي كانت طهران تأمل منها تعويض خسائرها في لبنان، وأن مبادرة الثوار استثمرت لحظة تقاطع تركية مهمة، ساهمت فيها مصالح دولية.

 فما هو التقدير الذي يجب التعامل معه اليوم للفهم؟

      لقد تحقق اسقاط نظام الأسد، وصعدت قوة تحالف من الثوار الى سُدّة الحكم الانتقالي بحكومة جديدة، سواءً كانت متوافقة مع الرؤية العربية المتوازنة، أو مختلفة معها، فاليوم هناك بديل تاريخي لحكم أسود حالك في ارهابه، فكيف يتم التعامل معه، وكيف يُنظر الى تركة الحكم السابق، ومعنى نجاة السوريين منه.

 هذا السؤال لم يُستعرض بالقدر الكافي، لسبب بسيط وهو أن مشهد هذه التركة حتى اليوم، لا يزال يُعطى مؤشرات صادمة لحقيقة النظام الدموية، التي تحسبها من الأساطير، والسياسة المزدوجة له، والثالث هو ذالك الهيكل الصفري لمؤسسات مافيات أُطلق عليها مسمى دولة، في منظومة حكم أسرة الأسد وأقاربه.

      دعونا نأخذ مثلين مهمين هنا، الأول تثبيت أن المصنع الرئيس لتجارة حبوب الكبتاجون المخدرة، كان ضمن منشآت الفرقة الرابعة في جيش النظام، وبالتالي كانت تجارة المخدرات التي حاولت دول الخليج العربي والأردن، السيطرة عليها دون جدوى، ضمن هيكلة الجهاز العسكري للنظام، عبر حدوده أو عبر المرفأ اللبناني، فهو لم يكن مساحة فتحها النظام مع تُجّار المخدرات، بل مشروع للنظام نفسه.

      أما المثل الثاني فهو تلك الثروة من الوثائق والمعلومات، التي تؤكد دور نظام عائلة الأسد المزدوج، في حيوية علاقته مع تل أبيب، ضد حلفائه أنفسهم في ايران وحزبها في بيروت، وهذا الغضب الذي اشتعل في مشاعر كوادر الحزب، إنما كان يغضب بسبب تبيّن خيانة الأسد لإيران ولهم، ولكنه لم ينظر الى الصفحة الأخرى، التي تواطأت فيها ايران مع الحزب، في دعم عمليات النظام المكثفة لإبادة المدنيين.

 وأن تلك العمليات الضخمة، التي رُصدت من تل أبيب ومن الغرب مبكراً، لأجل تأمين تثبيت الأسد، وأسلحته الكيماوية ضد شعبه، تُركت منذ ذالك الزمن، كما تَركت إسرائيل الحزب يتنقل من لبنان الى المدن والأرياف السورية تحت عينيها وذخيرتها، لدعم سحق الثورة السورية.

 ثم حين أُنجزت المهمة ومهام أخرى صنفها العقل الصهيوني، ضمن تقاطع مصالحه، قلبت تل أبيب الطاولة على ايران، وكأنما ارتفع الصراع الى التصفية النهائية، بعد الأدوار التمهيدية، فلا بد لطهران من أن تتجرع مرارة الهزيمة، لحسابات تل ابيب النهائية.

 يقظة متأخرة من الحزب ولا يزال في وقع الصدمة منها، رغم انتقاد بعض كوادره لطهران، وهو مؤشر غير مسبوق، وكذلك تخوينهم الصريح للأسد، إلا أن الدرس الفكري الكبير لساعة الصفر، لا يزال بعيداً عن مُخيلة الضاحية الجنوبية المنهكة.

      إن وثائق التواطيء بين نظام أسرة الأسد، وبين الإسرائيليين، كانت تعتمد على خيار بشار الأسد في أن تأهيل النظام عربياً، هو أفضل خيار لصالح مؤسسات المافيا الحاكمة، وخاصة حين أدرك الأسد أن قواعد اللعبة الجديدة، لن تتسامح معه فقد تغيرت حركة الخرائط، فبادر الأسد الى منح عربون الإقرار لتل أبيب.

 ولكن رياح التغيير ليست مرتبطة بقواعد اللعبة المركزية، ولكن للأقدار مرجعيتها العُليا في الحسم، فجاءت الرياح بما لا تشتهي سفن الحكم الأسدي، وحملته على راحلة الهروب الأخير لموسكو.

      ننتبه هنا إلى طريقة هروب رأس النظام، والى مكالماته الأخيرة، لحلقته الخاصة وخداعهم، والى إشعار طاقمه العسكري الخاص، أو استشعارهم للهروب الى لبنان أو العراق، لا علاقة لكل تلك الساعات والأيام الأخيرة، بقرار دولة ورئيس، ولكن لحكم عصابة وشخص يرأس مافيا بلا أي أخلاق، وهو الذي ظل يزايد على شعبه، وعلى شعوب المنطقة، وهو في حقيقته رئيس عصابة دموية من جهة، ومن جهة أخرة دمية تافهة لتل أبيب!