القانون الاجتماعي والدين والعالم الأخير
مهنا الحبيل
يدور عنوان المقال عن المشروع الفكري الأخير الذي عملتُ عليه من عدة سنوات وهو على وشك الإصدار، وهو يتساءل عن مساحة الفراغ الضخمة في قصة الإنسان، قصة وجود وقصة حياة.
وسؤال البحث القديم بينهما هو الوصول للحياة الآمنة والسعيدة في مجتمع رشيد، كيف يُعرف هذا الرشد؟ وكيف يُحقق به حلم المدينة الفاضلة؟
هنا يأتي جواب الدين والمعتقد بكل مذاهبه، وبكل طرقه وأطيافه، بما فيه الإلحاد، الذي أضحى اليوم نمطًا دينيًّا، لا من حيث الوصول إلى عالم اللامحسوس، أو الخلود من بعده، أو العدمية عند البعض والفناء، ولكن من خلال طريق الحياة نفسه، الذي تعبر النفس البشرية رحلتها من خلاله.
وهذا البحث أو الصراع لتحقيق أحد مسالك الاعتقاد في علاقة الإنسان بالدين، سالت فيه محابرُ ودماء، لم تسعها أسفارٌ كثيرة، ولكن بالكاد تحتوى مجلداتها في مكتبات ضخمة، ولأن الإنسان بذاته روح وجسد، خُلق في هذه الطبيعة، فإن القانون الاجتماعي ولد معه.
إذ كيف يعيش في هذه الأرض؟
وكيف يسعى فيها وهو يُطالع الكون دون أن يتدبر في نفسه، وما يشعر أنه جبلّة فيه، أو معالم اكتسبها من سيره بين الطبيعية، فتتبين له قصة الحقيقة ويدرك دور عقله وتفكره، ثم جوارحه في حرث هذه الأرض؟
هذا التفسير البسيط تعقبه عوالم أخرى من التدبر، في نشوء النُّطَف عبر علاقة الزوجين، وحمل المولود وطفولة الإنسان المتجددة، منذ الخلق الأول حتى اليوم، يولد المولود بقلب مفتوح وعقل مستقل، وطبائع ذاتية للألم والخوف والجوع والسعادة، تشمل كل أمم هذه الأرض، هذه بالضبط دلائل الفطرة الأولى، ومعنى بعثها في النفس، ولذلك أُطلق على من اعتمد على هذا الأصل اليقيني – ومنهم روسو – فلاسفة الفطرة.
ولكن هذا اليقين الذي تهتدي فيه النفس البشرية إلى وجودها المخلوق، وتوحّدها في نظام الجسد الدقيق، والفارق المشهود بين عوالم الحيوان والنبات والجماد، يُشير إلى البعد الآخر في الحياة، وهو الخالق، فكل مخلوق له خالق، وكل روح تَسألُ من جديد عما وراء المحسوس، الذي تجده حاضراً متفاعلاً بين جناحيها ويخفق فيها كل جزء من الثانية.
فهنا تنبع قاعدة الدين الأولى من هذا الاستشعار، وتبدأ من خلاله النظر في آثار الوحي الذي ربط الجسد بالنفس، فلكل حركة تقوم بها أجسامنا قاعدة توجيه فكري، مختلفة تماماً عن مادية هذا الجسد، الذي يفقد فاعليته بمجرد خروج الروح منه، ويغدوا مطابقاً لبقية الجمادات، ثم يتحلّل أمام أعين الأحياء، فيعود تراباً.
إذن هذه الروح هي المحرك، وهي سر الحياة المحسوسة، لم تفلح كل المحاولات لتفسيرها في إطار عدمي مادي، فالطين يظل طيناً، ولا يُبنى به دارٌ ولا جدار إلا من خلال ذراع الإنسان وإرادته، فمن أوجد في الذات الآدمية هذه الإرادة الروحية؟
وهل هي إرادة مطلقة بلا نظام، وليس لها هدف لما بعد الحياة؟! أم أن هناك قصة يحضر معها الدين من جديد، إذ إن نفس السؤال قد خلق أزمة صناعة الدين، بين الدين المخلوق الذي يحرث في التيه المادي، دون التوقف مع الدليل، وبين دين الخالق الذي تطابقت فيه قصة الكون التي أُنزلت في تاريخ النبوات، مع دلائل هذا اليقين الروحي على الأرض والفلك حوله، فينقلب البصر حسيراً، أي: ملهماً بذات اليقين المتكرر في كل دليل.
فكأنما المحرك نفسه الذي بعث أوليات الاستشعار الأولى، بين الإنسان وذاته، قد عاد ليُكمل الصورة في وجوده، فالدين هنا أياً كان مذهبه واعتقاده، حاضرٌ مستمر في فلسفة التكوين وفي فلسفة التشريع.
وهذا ليس مدخل روسو وحده، ولكنه سؤال الفلسفة القديم، حتى عصرنا الذي سُمِّي ما بعد الحداثة، فجدل نقض الدين الروحي السماوي ذاته تحول إلى أقانيم دينية، تسعى أن تخرج من يقينيات الفطرة وعلاقتها بتوجيه الروح، إلى شريعة المادة التي تقوم على نفي الروح، ولذلك هي ذاتها تتبدل وتدخل في أطوارٍ أخرى.
إذن نحن أمام ارتباط وثيق بين ذات الوجود والطبيعة الإنسانية الأولى، وبين حضور الدين المطلق، ولا فكاك في هذه الحالة عن الوصول إلى قانون اجتماعي يفترض أن سؤال الذات فيه وسؤال المجتمع هو الوصول إلى الحياة المطمئنة، والعمر الناجح والأرض المعمورة بالأخلاق، وهناك تفسيرات متعددة عن معنى هذا النجاح، لكن هناك مركزاً للسؤال لا بد من العودة إليه حتى نصل إلى الحقيقة.