نوفا سكوشا.. من فاجعة الألم إلى رحلة الأمل
مهنا الحبيل
رن الهاتف في مكالمة عاجلة من مسؤول حكومي كندي، وكان المستقبل الشيخ المصري عبد الله يُسري، رئيس مركز الأمة الإسلامي في هالي فاكس عاصمة إقليم نوفا سكوشا شرقي كندا، في اليوم الأخير لترتيب رحلته في إجازة مع الأسرة إلى مصر، بعد رحلة شاقة في رعاية وتنظيم المؤسسة التي استلمها عام 2017، وها هو اليوم على مقربة من العودة الى القاهرة، كان المتصل مايك سافانج عمدة هالي فاكس في عام 2019، طلب سافانج من د. يسري التوجه فواراً لمستشفى المدينة، استغرب من الطلب، ولكنه ادرك أهميته، ما لقصة؟
قال عمدة المدينة مايك سافانج رجاءً اذهب الى هناك فوراً، وسأشرح لك في الطريق.
كان الخبر كالصاعقة وقد صدمني وأنا اقرأ تفاصيله اليوم على بعد 6 سنوات، أبلغ العُمدة الشيخ أن منزل للأخوة من اللاجئين السوريين لكندا في ضواحي المدينة احترق، وأن الأطفال السبعة للأسرة كلهم قضوا في لهيب هذه الفاجعة، وأن والدهم في العناية المركزة، ووالدتهم تتعافى من إصابتها، وتسأل عن أولادها وزوجها، ولم نخبرها، ولم نخبر الصحافة، أردنا أن تتولى أنت الأمر المعنوي (الديني) الذي لا نستطيع أن نُديره، ولا كيف نواجه أسرة بارو به.
جبر الله قلوب الأسرة، وتغمد احبائهم في جنات النعيم، لا أزال وأنا أعود للقصة في مصادرها أتفهم حجم هذا الألم الكبير، لكن هناك حكمة ربانية في جبر آلام ذوي الابتلاء في مقام اخروي يجمعهم مع أحبتهم، في رعاية خالدة لدُنّيّة هي السر الكبير، في طمأنة النفس المؤمنة بالله في فلسفة الروح الإسلامية.
رغماً عني والشيخ يحكي لي القصة في قلب هالي فاكس، غادرتُ الى غزّة، كيف لهذا العالم أن يستمر في مناصرة مجرمي الحرب، كيف يُسكَت عن حرق الأطفال أحياءً، 18 شهراً من الإرهاب في جسد الأطفال، لقد كانت تلك المشاعر والاحتضان لأسرة بارو هي الموقف الحقيقي للذات الإنسانية أياً كان دينها، فمن أسقطها في غزة وفلسطين ومن أسقطها من قبل في الأرض السورية قبل سقوط الأسد وفي أي مكان آخر في العالم، عدتُ الى الشيخ بتركيز لأني بدأتُ ألمس علاقة متميزة، بين المجتمع المسلم في نوفا سكوشا مع شركائهم في الأرض الجديدة.
قال لي الشيخ أنهُ تحول الى المشفى وواجه الكارثة، التي أضحت واقعاً، واُمطرت عليه الأسئلة وعروض المساعدة، وأياً كان الدعم فلن يُرجع الروح الى المهج الغالية، ولُعب الأطفال التي كانت تستمدها من أحباب الله، لكن الشيخ أراد أن يُنظّم هذا الموقف الوطني العام لنوفا سكوشا للتضامن مع أسرة بارو، ويُساهم في تنظيم الدعم، فقرر نقل صلاة الجنازة على الشهداء الأطفال، الى متحف الهجرة وفي قاعته الكبيرة صَلّى المسلمون على الراحلين الى كنف الله، وهذا المتحف هو في الأصل، مقر ميناء الاستقبال للاجئين من وراء البحار خاصة من أوروبا، اللذين قرروا اللحاق بكندا للنجاة من المظالم الكبرى، التي عانوا منها ومن صنوف الاضطهاد، لنا عودة أخرى له مستقبلاً بعون الله.
حضر رئيس الحكومة الكندية في حينها جاستن ترودو وحضر مسؤولي حكومة المقاطعة، لكن الشيخ وفريقه واجهوا سيلاً جارفاً من التضامن من سكان المقاطعة، شهوداً للتشييع ورسائل بالآلاف يشمل بعضها دعماً مادياً، تجاوزت رسائل الدعم الى الجوار الأمريكي، خاصة الولايات القريبة من نوفا كوشا، لم يكن هدف الشيخ هو تأمين ما يُمكن لرحلة الأسرة ما بعد الفاجعة، لكن أيضاً صناعة جسر تضامني من المجتمع الشريك الجديد، والذي مثلت الحادثة نموذجاً ملهماً فيه.
في تفاصيل الزيارة لهالي فاكس هناك حكاية مهمة، تحتاج للمراجعة وللتدبر، وقد يرى البعض أن الجريمة الإرهابية في مسجد مدينة كيبيك الولاية الكندية الأخرى، في يناير 2017، أظهرت مشاعر شبيهة مع الضحايا وأهاليهم، لكن حكومة المقاطعة فيما بعد شرّعت قوانين ونفذت سياسيات استهدفت مسلمي المقاطعة دون أن تُسميهم، أهمها قانون محاصرة الحجاب وفصل مرتدياته من بعض الوظائف الحكومية، وتضييقات أخرى، وأن حوادث التعديات على المسلمين استمرت، ومع أن الحكومة اللبرالية أعلنت مفوضة للإسلاموفوبيا، غير أنها فرغّتها من قدرات الالتحام بقضايا القلق لمسلمي كندا، وبالذات قضية حقوقهم القيمية الدينية في وثيقة الحريات.
وهذا حديثٌ له مساره الخاص في نقد سياسات الحكومات الغربية، وتناقض بعض سلوكياتها وخطابها، اعزله عن قصة الخطاب المجتمعي، ولكندا حالة خاصة في الجسور المعطلة بيننا وبين المجتمع الكندي في بقية تعدديته، وخاصة (الأمريكي الشمالي الأبيض) سواءً كان في كندا أو في أمريكا، ولذلك رأيتُ في رحلة هالي فاكس، التي استقبلني فيها مشكوراً مركز الأمة الإسلامي ما يستدعي التوقف والمراجعة وللحديث بقية.
