لقد حررنا سابقاً مركزية العقل في الوصول إلى مرجعية الوجود، وعرضنا نقد العقل التجريبي، وإشكاليته الكبرى التي أُسس عليها تعريف الوجود ثم تنظيم المعرفة بناء على المصدر الحصري للعقل التجريبي، ثم رحلة العالم الحديث عبره إلى إعلان المنظومة الأخلاقية، والعقل التقدمي الذي سعت الرحلة الفلسفية الغربية، إلى تكريسها كقاعدة انطلاق للعهد الجديد، للجغرافيا الغربية، والتي عانت في الزمن القديم من حروب دينية متوحشة، فصًّلناها في مصادر أخرى، وعليه التزمت هذه الرؤية بنشأة عالم بلا دين، على أمل أن تُحقق النهضة الحديثة في أوروبا قيام بديل يحكم هذا العالم، ويحكم تفوق الإنسان (الغربي) فيه.ورغم مساحات النجاح التي انتهت إلى تنظيم قوانين دستورية، وقواعد عدالة اجتماعية، وتنمية علمية، كانت نتيجةً لتنحية سُلطة الدين المنحرف، وسيف الملوك المُصلت على الحريات والكرامة الآدمية، فإن ذلك البعث الغربي حقق قفزات في التشريع الدستوري وفي النهضة العلمية، لكنه وإن أَوقَفَ عَجلة الحروب الداخلية مرحلياً، لم يوقف حملات الاستعمار على العالم الجنوبي، فارتداد أسئلة الذات القومية في أوروبا وأميركا الشمالية، تطور حتى عُهدة الرئيس الأميركي الأخير دونالد ترامب، في دورته الثانية، وهو ما يعني أن إعادة خلق الإنسان في العالم المادي الصرف، لم تَدمج بين شرائح أوروبا ذاتها، ولم تخلق لها كتلة متماسكة، من الوطنية الإنسانية للذات الغربية.ورغم سيادة معرفة الحداثة إلا أنها فشلت في توحيد الأجيال المستقبلية، لميلاد الغرب الجديد، ولا تزال تصبُّ أكبر الأذى بسلطتها العالمية على الشعوب المستضعفة، فهو فشل ذاتي قومي وفشل عالمي أخلاقي، ولن نعيد ما حررناه سابقاً، في خسائر العالم الآخر تحت سلطة المعرفة الحديثة.لكن المهم هنا، هو أن مركزية هذه المعرفة قامت على تقديس مطلق، لحاكمية المادة ونفي مطلق لحضور الروح، وهو ما تباين معه نسبياً أو كلياً فلاسفة الفطرة في الغرب كروسو وكانط، والفلاسفة الأخلاقيون المعاصرون، غير أن الأزمة هنا هو أن نموذج الفطرة لم يوضع لديهم، في تراتبية صحيحة ولا منظور شامل، يُعيد إدراجها تحت مصدر معرفي متباين مع العقل الحديث، الذي اعتمد المادة مرجعية مطلق تحكم على تاريخ العالم، وعلى مصداقية العلوم، وعلى دقة التصور الكوني للبشرية، وكنموذج يحضر لدينا يبرزُ بحث روسو الحثيث المخلص عن مجهر الفطرة، في ذات الوقت الذي أنغمس فيه وتورط في النظرية الداروينية.ولذلك فالفراغ المعرفي قائم في العالم، ويرتد غيابه أخلاقياً ليدمر المركز الأخلاقي، ومع أن الفكرة الرئيسية فيه هو تنحية الدين، غير أن الدين لا يزال فاعلاً في كونه يُستدعى كعقيدة قومية، للغرب المسيحي حتى في زمن الإلحاد، وهو حاضر فيما اعتبره الغرب القديم دولة تقدم تُخلق في الشرق الأوسط لبني إسرائيل، وكان تأسيسه بعد احتجاج صهيوني قديم، على القوى الليبرالية الحداثية التي حكمت أوروبا وأميركا، بأن الشعوب المتقدمة شَرعّت لها الفلسفة الحديثة إبادة الشعوب (المتخلفة)، وأن إسرائيل الجديدة، رغم أنها تقوم على عقيدة دينية هي امتداد للمعرفة المادية الحديثة!إن اهمال مشهد إبادة غزة هو خيانة تاريخية للمعرفة والفلسفة الأخلاقية الجديدة، فهو نموذج مكرر من عهود الإبادة القديمة، غير أن تطويره للإبادة عبر التجويع مع وجود القتل العشوائي المكرر للنساء والأطفال، يعيد الرابط المادوي المتوحش للحداثة.إن الانتفاضات الأخلاقية في الغرب، التي تصطف مع غزة وتكثف من دوائر الاحتجاج والمقاطعة فيها، هو تعبير صادق للضمير الغربي الذي لم يُمسخ، ساهم فيه تحرير السلطة السياسية على حرية الفرد ومواد الدستور التي كُرّست للحقوق الفردية في الغرب، ومنه حرية التعبير السياسي، غير أن كل هذه الاحتجاجات لم توقف إبادة غزة، ولا مجمل الدحرجة الخطرة على الروح في الإنسانية العالمية.إننا نعود اليوم للفارق الرئيسي وهو قدسية المادة وصنميتها في العالم الجديد، وحينما نقول أنها صنمية ليس مصطلح مبالغة، ولكنها حقيقة ثابتة في حاضر العالم اليوم، فقد أُلغيت الروح من تاريخ الوجود، وفُرضت الرؤية المحررة لتاريخ الإنسانية كلها وليس المعاصرة وحسب، عبر تفسير مادوي متطرف، ألغى تاريخ المعرفة الدال على الوجود، في ثنائيتين مركزيتين، الأولى التغافل المركزي عن دلالة الروح في الذات البشرية وفي الناموس المطلق، والثاني هو تغيير دلائل الاسترشاد التاريخي، لوقائع الأرض من عالم النشأة حتى تاريخ النبوات، والعزل التعسفي المتطرف عن بيان دلائل الروح عن عالم المعرفة.فما هو حصيلة هذا العزل وإعلان المادوية المطلقة حاكمة على عقل الإنسان؟هو ما نعيشه اليوم في كل خسائر العالم، وعليه فأول ما تحرره المعرفة الإسلامية الجديدة، هو استدعاء هذا العزل على منصة الحوار الفلسفي الأخلاقي، فمن أين للغرب الحجة العلمية المعرفية على عزل الروح؟للحديث بقية
أغسطس 26, 2025
