أبو بكر الصديق في عالمنا اليوم
مهنا الحبيل
إن العودة للحياة الإسلامية الأولى، وخاصة الصدر الأول من أصحاب النبي صلى عليه وسلم، وبالذات مرحلة التحول من دولة النبوة إلى الخلافة الراشدة، ليس موضوعاً دينياً بالمعنى التقليدي، الذي ساد بين المسلمين، ففي الأصل لم يتم استيعاب معنى التعدد الجوهري والقيمي، والنظام الأخلاقي العام، في الرسالة الإسلامية، لا في منهجية التعليم التي سادت في الشرق، عبر استنساخ منظومة العالم الغربي، ولا حتى في منهجية التعليم التراثي.
الذي تعرض لضغوط مبكرة، وحصار شرس من أنظمة الاستبداد القديمة، عملت على تقزيم الروح الإسلامية في القسط والعدل، وفي بيان مقتضياتها الحضارية لسعادة الشعوب، حتى تضمن سلامة القصر وملوكه، منذ عهد بني أمية حتى عهود العثمانيين، ونتحدث هنا عن تقييم عام وليس حصري، إذ أن هذه الدول تشكلت فيها حالات اصلاح وعدالة سياسية، وتقدم حضاري علمي واجتماعي وسلوكي، كان له أثره الفارق بين تاريخ العالم في عهدة الغرب وتاريخ العالم في عهدة المسلمين. واليوم تغيب عن بعض شباب المسلمين رؤية عهد الراشدين، والمقارنة المنصفة بين مآل الناس والأمم، مسلمين وغير مسلمين في ذلك التاريخ، وبُعثرت بين يديهم سير الراشدين، ولم يفرّق فيها بين أحداث سياسية في غير قدرتهم، وبين قرارات وظروف واجهوها، بعد انقضاء دولة النبوة، ولم يُفقه هذا المفهوم ذاته، وهو أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لم يكونوا امتداداً لدولة النبوة في التشريع ولا الخصوصية، فقد انتهى هذا العهد بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبات حكم الصدّيق رضي الله عنه، تحت مجال الاجتهاد السياسي، الذي انتقل إلى صفوة الأمة التي حملت الرسالة بعد نبيها كشأن طبيعي، ومع ذلك لم تُفرد لهم خصوصية تقديس ولا عصمة، وكان النقاش والخلاف السياسي يحتدم بينهم، كبلاغ إلهي من أن طبيعة الحكم الإسلامي، يقوم على قواعد دنيوية لتحقيق العدل والخيرية للناس، في كليات مبدئية، وليس وراثيا يطلق للحاكم ما يخالف هذه المبادئ، مهما كان قربه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وسوف نناقش بالتفصيل مستقبلاً هذه الأمور، في رحلتنا مع ابي بكر الصديق، ولكننا سنعيد تعويم سيرة الصديق في هذا العالم، حتى نعرف مكانته الأخلاقية، ونستعيد سيرته الروحية، بين شباب المسلمين أنفسهم، حتى يتبين لهم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود في سيرة الراشدين، الذين يُعتنى بغيرهم من اقانيم الحكم والسياسة والفلسفة في العالم الآخر، ويقدسون في التاريخ البشري، وليس لهم تلك السيرة العظيمة في العدل أو في الصفاء الروحي.
كما أننا سنناقش الإشكاليات، التي طُرحت على سيرة الصديق رضي الله عنه، في جدل يوم السقيفة وفي موقفه من آل البيت، كمادة بحثية متسلسلة، تُعيد النشأة الأولى للتصور الصحيح، الذي يجب أن تعرفه أجيالنا.
إن هذا العالم وبالدليل الموثّق، يحتاج لمثل هذه الأرواح وزكاة نفسها وطهرانية الراشدين، في تعظيم الحقوق، وكيف أن الضمير الديني الحق، كان اقوى من أي مرجعية دستورية تراقب الحكم، حين يتحقق مداره الأصلي، في انشغال العبد بربه ومراقبته له. كل ذلك وكما اسلفت لم يمنع الخطأ أو خلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لماذا؟
لأن دائرة التكليف اقتضت فيها الحكمة الإلهية، والعدالة المطلقة للسماء، أن تسري على الأمة موازين الابتلاء والاختبار، وبالتالي فإن الأمة لم تتورط حين رحل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اختبرت وابتليت، بما تقتضيه عدالة المُشرّع الأعلى، وبكون أن الدولة الإسلامية بعد النبي، تحت مناط الاجتهاد لتحقيق شروط القسط القرآني والكرامة الآدمية، والوسطية بين الأمم لكي تُرشد العالم إلى ميزان النجاة، ليس للدار الآخرة وحسب، بل حتى في موازين الدنيا، فلا وراثة للأنبياء ليحكم السيف باسمهم، ولكنه ميراث المقاصد العليا، لنظام العدل الأعلى في الحياة الدنيا.
فإن قام به المسلمون رشدوا، وإن اختل ومَنعوا حق الشورى والقسط بين الخلق سقطوا، وقد غُدر بعمر وعثمان وعلي، رغم أنهم خيرة الصحب، ولكن الله جعل دائرة التدافع قائمة، يحاسب عنده من سفك دم الراشدين، ومن حول الحكم بعدهم لوراثة يتناقلها الظالمون. ومن أعاد ميزان الحق للأمة كعمر ابن عبد العزيز، كان حجة على المسلمين في ان الحكم بالعدل والعودة لميزان القسط، ليس معجزاً، ولكن القيام به يرغب عنه فئامٌ من الظالمين، لا حجة لهم، مهما صنع لهم أئمة الفقه المستبد قديماً وحديثاً، فعدل الراشدين ومن تبعهم هو حجة الله على العالمين.
وفي سيرة ابي بكر ننظر أي رجل هو بين حكام الأرض، وأي روح حملته، هل كان يراعي دورات انتخابية، وتوسع امبراطوري، أم كان كل ما يرجوه أن يمضي به العهد السريع، ولم يظلم امرؤً مسلماً ولا ذمياً، ونواصل السير معه ونحن ننظر الى ركام العالم الحديث.
