الوعي الإسلامي الجديد ونموذج الشيخ الخليلي
مهنا الحبيل
أتاحت لي فرصة زيارة مسقط الأخيرة، أن أغتنم تواجدي لتقديم وثيقة تكريم رمزية في ذاتها، كبيرة فيما أعايشه من إدراك عميق لهذه الشخصية المتميزة في منطقة الخليج العربي، وبين المؤسسات الرسمية العلمية في الوطن العربي، وهو الشيخ أحمد الخليلي، مفتي سلطنة عمان، الذي استقبلني في مائدة الافطار، بعد أن شاركنا سفرته الجامعة لأهل الحي، والعمال المسلمين بجوارهم، في مسجد بالقرب من منزله في منطقة الموالح بمسقط، وكان تواضع الشيخ ومؤانسته للناس، ومباشرته لهم، رغم تأثير العارض الصحي وكبر سنه عليه، حاضراً بحميمية بين الضيوف الحضور.
وقبل أن استطرد في حديثي عن الشيخ الخليلي أؤكد مسارات مهمة، نحتاجها في خطاب الوعي الإسلامي الجديد، الذي يسعى للخروج من طريقة الفهم والسلوك الخاطئ الذي أنتج ثقافة دينية واجتماعية، تقطع الأواصر، وتوتّر المجتمع، بدلاً من كسب القريب والصديق الجغرافي والتاريخي، والذي تصلنا به صلة الدين والعروبة، ومن ثم المشترك الإنساني مع البشرية جمعاء.
فخروج السلوك الاجتماعي وخطاب الوعي الإسلامي الجديد، من صناديق معلبة، بناءً على فكرة التقسيم للجماعات والمجتمعات، بقوالب الحزبية الدعوية واجتهاداتها، أو عبر التعبئة المذهبية، التي لا تفرز بين الخلاف السياسي وبين الانتماء الديني الأصلي، وتَعمد إلى احتجاز الرأي العام في تنميط لكل صراع وخلاف مذهبي.
هو أمرٌ مخالف لأصول الشريعة الكبرى، ومسلماتها وميثاق الأخلاق الإسلامي، ويزداد ذلك التجهيل، في البيئات التي لم تكن لها دراية، أو جوار للمناطق الجامعة بين أبناء المدارس الإسلامية، المشتركة، وخاصة مع أهلنا في عمان واليمن، وبقية الخليج العربي، فيجهل المتابع لقنوات التحريض، حقائق كبيرة تُصحّح ما يسمعه من خطاب التعبئة الكريه.
الجانب الثاني المهم في تقدير العلماء، ألا نجعل الارتباط الرسمي بالدولة في الوطن العربي عامل قطيعة، حتى لو تباينت الرؤى والاختلافات السياسية، فهذه القطيعة لا تُفيد المجتمع المسلم بكليته، من انتسب إلى تيارات أو إلى تدينه الطبيعي، فيبقى للناس جسورهم، ومن أخطأ وهو من داخل المؤسسة الرسمية أو خارجها، فلا يُعمّم ذلك الفعل على البقية، ولا تُفرض القطيعة بدل فُرص التواصل، التي نحتاجها اليوم كضرورة، أمام مستقبل يُهدد استقرار ما تبقى من الشرق الإسلامي، الذي لا تنطفئ حروبه بل تزداد.
أما الشيخ الخليلي فهو نموذج فريد جدير بالفهم، فبدءًا بسلوكه الشخصي وتواضعه وكرمه وما يعتني به من حاجات الناس، فيُنفق من راتبه حتى يفنى، ثم يستدين من أولاده لتغطية طلب من يحتاج لمعونته، فهو في ذات الوقت متواضع بسيط خلوق، مع العامة والخاصة، لا تشعر بأنه يبني حصناً فوقياً أو مشيخة مقدسة.
ومع أن الشيخ له منهجه الفقهي وتأصيله العلمي الذي اصطبغت به مدرسته، لكن لم يحوّل هذا التفقّه الأصولي إلى أدوات صراع فكري، بل مارس عبر قناعاته مد جسور التعاون والتواصل، وكافح بصلابة لكيلا تُجّر عُمان والمدرسة الإسلامية فيها، إلى حروب مذهبية، وخاصة مع بعض الأطر السلفية، التي استهدفت المدرسة الإسلامية الاباضية، مشتركة الأصول الكبرى، ومساحة الفقه، فضلا عن الفكر والقيم الموحدة، ولولا حاجة الرأي العام لتوضيح مثل هذه المسائل، لما استغرقنا في مثل شرح هذه الجوانب.
فمساجد عمان موحدة، يؤم فيها الإباضة والشافعية والأحناف وغيرهم، متوحدي الصفوف، وتُقدم الإمامة لكل مذهب في المساجد التي تتواجد في مناطقهم، ولا يوجد فرق فالمسجد واحد والصلاة واحدة، والقيم مصدرها واحد والأمة دعوتها جامعة، وفي عُمان هناك حضور لخطاب الإسلام القيمي، تسمعه في الإذاعة العامة وفي البرامج الإسلامية.
ويتردد بكثافة في صوت منابر الجمعة، وفي مراعاة الناس وتأثير الفكرة الإسلامية المعتدلة عليهم، وإن كان السلوك العماني وتميزه الأخلاقي قديما، وللشيخ الخليلي تأثير في ذلك، شراكةً مع اعتناءٍ خاص للوزير المفكر د. عبدالله السالمي، وزير الشؤون الدينية في عُمان، بهذه التطبيقات الفكرية التي سمعتها منه، ورأيت آثارها في السلوك العام وصوتُ المجتمع.
وعُمان احتوت تماما الحالة الشيعية، ولم تسمح للانقسام المذهبي أن يصل اليها، أو أن تؤثر حالة الصراع الخليجي العربي مع إيران، على علاقات مجتمعها الوطني، ولمسقط سياسة مختلفة في الخليج العربي، لها رؤيتها عن الموقف الإيراني، المُدان لدينا بكل وضوح، في حروبها الطائفية التي اشعلت مع الطائفية السلفية المنطقة.
لكننا نتحدث هنا، عن حكمة تجنيب البيت الاجتماعي الوطني العُماني، الذي تضرر في الخليج العربي، هذا الصراع وبقاء الوحدة الاجتماعية بين الناس.
وهناك أصوات في تويتر والإعلام استغلت هذا الموقف من الطرفين، من داخل عُمان، لكن المجتمع صامد ومتآلف، ومقتنع بضرورة المحافظة على هذه القواعد الكبرى للسلم الاجتماعي، وهنا دور المؤسسة الدينية، التي باشرت تعزيز هذا الخطاب في المجتمع العماني ونجحت بذلك، واليوم ونحن نراقب نجاحات إيران ومعاركها الطائفية، فلم يوقفها صوت الغلو السلفي، ونشهد ما جره هذا الغلو، على المجتمع العربي في الخليج وغيره، فعلينا أن نستفيد من هذا الدرس جيداً.
وللشيخ الخليلي إرثه الفكري حيث كان مطلعا ومتفاعلا، مع خطاب الفكر الإسلامي المشترك، الذي مارسته الجماعات الدعوية أو كان منبراً مستقلا للفكر الإسلامي، ورغم اختلافه مع طريقة أو منهجية الدعوات الحزبية، إلا أنه لم يحوّل منبره ولا جهوده، إلى حركة عداء أو تحريض عليهم، أمام الظلم الذي تعرضت له هذه الجماعات في أوطان الربيع العربي.
ولم تحفّزه أخطاؤها لنشر خطاب الكراهية ضدها، بل إن الشيخ الخليلي وفي أوج الحملات على الاخوان، قد يورد في درسه رأياً للأستاذ سيد قطب رحمه الله، من تفسير الظلال، فيُثني على ما أصاب فيه رأيه، ويترحم عليه كشهيد مفكر قتل ظلما في سجون الاستبداد.
ومع الأزمة السياسية التي باشرتها مسقط قبل أكثر من عقدين، في قضية الموقف من الحركة الإسلامية العمانية، ورفض السلطنة لوجود تنظيم حركي في أراضيها، اُعتقل عدد من أبناء عمان المنتسبين اليها، فلم يتحول المفتي الخليلي لمحرض عليهم، بل العكس، استثمر علاقته وتقديره الخاص لدى السلطان قابوس، وشفع لإطلاق سراحهم.
وتكرر هذا الأمر مع مجموعات أخرى، بما فيها شباب الحركة الإصلاحية الدستورية في صُحار وبقية عمان، خلال الربيع العربي، الذين تقدموا بمطالب إصلاحية للسلطنة، فأوقف بعضهم، فشفع الشيخ الخليلي لإخراجهم، وقد أطلق الجميع في حينها.
وظل الشيخ قلقاً من كل دعوات الاشتباك والفتن المذهبية في العالم الإسلامي، وساهم في إطفاء الفتنة التي حاول البعض اشعالها بين المالكية والاباضة، في المغرب العربي، بعد وصول الغلو لبعض مناطقهم، وهي اشتباكات لم يعرفها أهل الجزائر ولا غيرهم، بل الأصل الوحدة الدينية والوطنية ومقاومة الاستعمار الفرنسي، التي كانت حاضرة، في التاريخ الاجتماعي للمغرب العربي.
ولقد ساهم الشيخ الخليلي وعبر تواصل مباشر مع السلطات في الجزائر، في دعم المصالحة الوطنية، ووقف العنف المسلح الذي اشتعل بعد انقلاب السلطات الجزائرية على الخيار الديمقراطي، واختراق جماعات العنف والغلو المتوحش لساحة الصراع، وتداخله مع التوظيف المخابراتي، وما جرّه على الشعب الجزائر في العشرية السوداء المعروفة.
بقي الشيخ الخليلي بمنصبه في اتحاد علماء المسلمين، رغم الحملة على الاتحاد، ورغم أخطاء الاتحاد، التي اضعفته كثيراً، تدخلاته السياسية المكثفة في كل صغيرة وكبيرة، ولكن الشيخ الخليلي رفض أن تُصفّى الحسابات مع الاتحاد باسمه، وحافظ على جسوره، وموقعه الاجتماعي الديني المهم في العالم الإسلامي، ورفض أيضاً دعوات إيرانية مكثفة تتحالف معه في قضايا الصراع المذهبي.
وفي قضية الشيعية الطائفية السياسية، للشيخ الخليلي آراؤه المخالفة، والناقدة بشدة على ما جرّه هذا التطرف الشيعي، حيث يذكره دائما مع تطرف الغلو السلفي، كأزمة تاريخية تعصف بالأمة، لكنه من موقعه الديني رأى أن يُراعي موقف السلطنة، من زاوية قناعته الشخصية الفكرية.
وهي أن الخلاف مع التطرف الطائفي الشيعي، الذي ساهمت فيه إيران، يجب ألا يُغيّر من موقفه من الحفاظ على توازن السلم الأهلي للمنطقة، وخاصة ضفتي الخليج العربي، وأن أي حرب باسم الحرب الطائفية السنية الشيعية، هي في صالح الاستعمار الغربي وأيقونته الإسرائيلية، وستجر على المنطقة كارثة كبرى، وعقل عمان في تقدير السياسي، وان اختلف المحلل السياسي معه بعض رؤاه، لكننا نشهد اليوم أهميته القصوى لوضع الخليج واشكاليات صراعاته المفاجئة.
وأبقى الشيخ الخليلي اتصاله المكثف مع المدرسة الزيدية، داعماً بوضوح لرفض تأثرها من توظيف الطائفية الشيعية الجديدة للانقلاب، وساند تشجيع الخروج من أزمة ما بعد الانقلاب الحوثي، بمصالحة اجتماعية وطنية، كانت مدرسة الإمام زيد ولا تزال هي الشريك الفاعل الإيجابي فيها عبر قرون، وهو موقفنا المتحد مع الشيخ الخليلي، والذي نأمل أن يتحقق بوقف الحرب وعودة الشرعية الموحدة لكل اليمن.
إننا نهدف اليوم، من خلال استعراض سيرة هذا النموذج الراشد، لجيل علماء المسلمين في منطقة الخليج العربي، لنأمل أن يُعتنى به، ويُقدّر جهده، وصولاً إلى الاستفادة من تجربته وعقله وحكمته، التي يحتاجها العالم الإسلامي بعد تجربة مرة من الصراع، ولعل ما أثارني دوماً في شيخ عُمان، هو طبيعة الزهد والروح البسيطة المتواضعة، التي يتنقل بها الشيخ الخليلي.
وأن ذلك الامر في سير الصالحين مبعثه دائماً، اخلاصٌ يوفق الله له العالِم، في حين قد يُفتن آخرون بقرب السلطة أو بعيداً عنها، فتثري جيوبهم لمصالحهم الشخصية، أو يحرّضون على الأبرياء المخالفين لهم، فالعبرة هنا في مصداقية المنهج وعدالة السلوك، وليس في موقع الناس من النفوذ.