قراءة في كتاب “حوارات في الأفكار والمعرفة”

حسين مديحج
جامعة ابن خلدون – اسطنبول

في لحظات الأسى واضطراب البوصلة وضبابية الطريق، التي يعيشها الشاب العربي المسلم اليوم، يعزّ على الإنسان مشاهدة جهود تبذل في سبيل تخفيف وطأة الألم على الجيل العربي الجديد الذي يشهد تشكّل حقيقي ومختلف، نتيجة الحالة العالمية العامة من جهة، من تغيرات ملحوظة في القوى، وتفكك للنظم السياسية، والفراغ الرؤيوي على مستوى التصورات الفلسفية، ومن جهة أخرى حالة الشتات الشاسع للمواطن والوطن العربي مما عكس ظلاله على الوعي والفكر، وسياقات المعرفة المختلفة.


ومن عمق هذا المشهد تبلورت مجموعة من الأفكار الحية، صيغت بأنامل حاذقة محاولة التعاطي مع الحالة الفكرية العامة في الساحة الاسلامية والعربية، ابتدأها الأستاذ مهنأ الحبيل بكتابه حول (فكر السيرة) وأتبعها ب(زمن اليقظة) و(في سبيل التنوير) إلى كتابه الأخير (جدل ثالث)، وبهذا الكتاب يكون مشروع الأستاذ الحبيل الفكري قد وصل إلى كتابه الخامس، مشكلاً بذلك خماسية فكرية تصطدم بتساؤلات المرحلة وأزمة العصر، وتسعى لبناء منظومة أخلاقية تمكن الإنسان المسلم من التفاعل الواعي مع واقعه دون الإنكسار للطغيان المادي، والذوبان أمام ثقافة المنتصر، والعيش بروح المهزوم متعثر الخطى.


جاء هذا الكتاب جديداً والذي يصدر قريباً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في طريقة بنائه على غير ما اعتاده القرّاء من كتابات المؤلف، حيث جاء عبارة عن مقالات مفرقة و “جزر معزولة” بتعبير الكاتب، يجمعها خط ناظم يتضح للقارئ منذ الوهلة الأولى من الشروع في الكتاب، وقد ضمّن فيه سلسلة من الأفكار في أبواب معرفية مختلفة انتظمت في هدف بناء “وعي عربي يقوم على قاعدة الفكر الإسلامي التجديدي”، والسعي “للخروج من آثار التخلف في المرجعيات الحزبية والتراثية للجماعات الدينية المتعددة، ومن مسلَّمات القواعد اللائكية العلمانية المتطرفة “مراكماً ما ابتدأه في كتاباته السابقة المشار إليها.
وقبل الدخول للحديث في تفاصيل الكتاب وجب التنويه على أن مادة الكتاب ثرية وغنية جداً، ومن غير الممكن استقصائها كاملة، وسأكتفي بإشارات آمل من خلالها فتح نافذة على موضوعاته وفصوله.


جاء الفصل الأول من الكتاب ليعيد موضعة القراءة والثقافة والمعرفة بوصفها حاجة ملحة لا مجرد ترف فكري أنتجه الفراغ، وأن القراءة في العالم العربي تمثل صورة كاشفة لحال الواقع المتأزم، حيث عزف عنها مستغنياً بمواقع التواصل الاجتماعي دونما إدراك بأنه يتعرض بواسطتها ل”استنزاف شعوري” شديد ينحت في جسده النحيل، كما أفرد صفحات مهمة أكد فيها على ضرورة المثقف المتخلِّق في مقابل المثقف المتفكِّر – إن صح الوصف – حتى يضبط حالة الانفلات المعياري الحاصل في السلوك والقذف الكلامي بين المتخالفين مقوماً ما صارت عليه الساحة الثقافية اليوم.


حمل الفصل الثاني مضامين قيّمة للغاية حوت خلاصات المؤلف ووجهة نظره حول مجموعة من الشخصيات المؤثرة، وبعضها جدلي يشوب الحديث عنها الحيطة والحذر، فقد تكلم عن الأفغاني وغاندي وعمارة والترابي وغيرهم، وأفرد للشيخ حسن الترابي الجزء الأكبر من المدارسة، حيث ناقشه في تفاصيل كثيرة تخص تقلباته وتطوراته الفكرية ورحلته العملية، وحاول سبك جوابات متسقة مع المشروع الكلي للترابي، وشهادته على العصر مع أحمد منصور التي نشرت بعد وفاته سنة 2016، وكان للحركة الإسلامية حيّز من النظر والمراجعة أيضاً، وصلتها بالبدايات الترابية التي جمعته بالرفقة في الشقة وصولاً إلى الفرقة في السلطة.
بفعل الاحتكاك المستمر بالسودانيين وزيارتي للسودان البلدة الطيبة، الطيب أهلها ثلاث مرات إحداها كانت قبل الثورة والأخريات بعدها، وجلوسي معهم منصتاً ومتعلماً منهم، لاحظت أمراً أكدّه الحبيل أثناء تعرضه للأستاذة فاطمة إبراهيم المناضلة الحقوقية اليسارية، وهو أن السودان سبق “الوطن العربي بمسار خاص فكري واجتماعي” و “دلائل المتابعة تفيد عن تميز هذا المسرح السوداني، هذا المسار هو الالتحام التقاطعي العميق بين التيارات الفكرية وجذورهم الاجتماعية، وتأثير ذات هذه الجذور رغم البأس السياسي والاستبداد الذي نصّب مشانقه” فعلاً فحكاية السودان تختلف عن غيرها، وسبقهم الثقافي ملفت في كثير من جوانبه.


لعل الفصل الثالث سيستوقف القارئ كثيراً لطبيعة موضوعه المتسم بالجدل، وأظن القارئ سيرغب في معرفة تصورات الكاتب فيما يخص “السلفية” وكيف قرأها بمعلومية المقدمات المنهجية التي رصّها في صفحات مفرقة من كتاباته، وكيف تناولها عارفاً بحمولة وأعباء الخوض في مثيلها من الموضوعات، ولعل ما شدّ الكاتب لطرقه هو العودة في مواقع التواصل وساحات المثاقفة للصراعات التراثية القديمة بين الجماعات العقدية المسلمة، وإحياء البعض للمضامين السلبية ونصب عمودها في واقع الحياة المعاصر، مع إغفال كبير لمشكلات الحاضر وتساؤلات المرحلة.


في الفصل الرابع الذي حمل عنوان “التطرف الغربي ومستقبل المسلمين في المهجر” فتّش الكاتب عن الأبعاد المعرفية والسياسية التي اكتنفت الجريمة الإرهابية التي نفذها المتطرف العنصري على مقهى في مدينة هاناو الألمانية في فبراير 2020، وأسفر عن مقتل 11 ضحية من أصول تركية مسلمة، والحادثة المأساوية الأخرى التي تعرض لها المصلون في نيوزلندا في مارس 2019، وغيرها من الأحداث، التي عكست صعود اليمين المتطرف في الغرب سياسياً ورافقها حملات الكراهية الشديدة تجاه المهاجرين والمسلمين، لذلك فإن المهجر الغربي اليوم يعيش تحدّيات في “عجز لغته الثقافية وغياب نماذج شراكته لصالح العدالة الاجتماعية لكل مواطنيه في مهجره الجديد، فالاكتفاء بخطاب المظالم الحقيقي دون نشر الوعي الفكري المناسب لخطابهم المعاصر، وتحويل فكر الإسلام المعرفي إلى مشاريع مشاركة وجسور اجتماعية يعزز الحصار عليهم.”


انتهى الكاتب في الفصل الخامس بالحديث حول “مفاهيم الإسلام المضيعة” باعتبار الفكرة الدينية والمرجعية الإلهية هو أساس “المزيج الحضاري” كما يرى مالك بن نبي، ولذلك ركز جهده على فهم دلالات الدين وحضوره في حياة الشعوب، وإعادة مركزة المقاصد الإسلامية الكبرى باعتبارها رؤية كلية ضابطة لحياة المسلمين، وليس كما يفعل البعض من الباحثين عند استقراء هذا الأمر بمجرد الوقوف عند الصراعات السياسية التاريخية منها والمعاصرة.
وإن كنت أتفق مع الأستاذ مهنأ في رؤيته العامة هذه إلا أنني أتحفظ عن التفاصيل وبعض عمليات التنزيل خصوصاً فيما يتعلق بالسنة النبوية والنظر للعلمانية، ولا أجد تحرير الموقف الكامل في هذه المراجعة المحدودة بالأمر الحسن، مع التأكيد على بقية المضامين المهمة التي أثارها بخصوص التعصب ومعالجته له، والهيمنة القرآنية، وتفعيل كليات الدين والقرآن في قراءة الأحداث المختلفة في التاريخ الإسلامي، وله في ذلك كلام نفيس.
إلى هنا أكون انتهيت من تسطير مراجعة كتاب “حوار في الأفكار والمعرفة” للأستاذ القدير مهنأ الحبيل، وحتماً هذه الكلمات ليس بمغنية عن قراءة الكتاب، وإن كان لها من مزية، فهي التعريف بالكتاب والإشارة له ليس أكثر، وأرجو أن يعذر القارئ ما وجده من قصور ويغض طرفه عن الخطأ، والله أبتغي القبول.