افتتاحية:
١٢/يناير/٢٠١٩ اجترح ثلوج كندا، دفء الشرق، بانطلاق أولى إطلالات مقهى المهجر الكندي، بروحٍ أدبية يزينها قبسُ الفكر وتجمعها عفوية اللقاء، فالثقافة رافد أساسي في تجذّر الهويات،وعلى الصعيد الخاص للأفراد توسّع المدارك، وتضيف الكثير من المعاني للذات وعن الآخر.
قال عنه المؤسسون:
لم تولد معنا المقاهي وتجمعات الفكر والثقافة، ولانعني التفرد في الطرح، وإنما هي محاولة لإيجاد جدول ثقافي جديد، متحرر من قيود التكلّف، ومتّسم ببساطة الطرح.
فميدان الثقافة العربية رحب ومتسع للكل، والبناء عليه يحمل روح التأسيس بعيدًا عن الشوائب، وروح التجميع نفورًا من الفُرقة.
كما ان مثل هذه الفعاليات، لا يُفهم منها سحب الجالية العربية للتخندق والانطواء على الذات، بل السير بهذه الهوية جنبًا إلى جنب بجوار مسؤولية الاندماج الحقوقي في الموطن الجديد والفعالية القيمية، ووعي الواقعية السياسية.
جبران والمهجر.. حوار حول رسائله الشرقية:
يظل السرد الأدبي كواحد من الفنون، يحمل رسالة ضرورية ومهمة، عبرها تقرأ المجتمعات تأريخها وترسم صورة لواقعها، وتستشرف دلالات لمستقبلها.
الكلمة الرئيسة كانت من نصيب الباحث العربي المستقل/أ. مهنا الحبيل.
وصف جميل على لسان أ. الحبيل:
“خلال صحبتي لجبران بدا لي كجمهورية في جزيرة ممتدة السواحل”
لذا اختار الحديث عن فكرة محددة استقاها من قبسات قام بجمعها من رحلة قلم جبران المتّسعة، حملت فلسفة ممتدة توحي بتشرّب صاحبها بها.
هذه الفكرة هي بروز تعلّق جبران بالشرق ووعيه للقيم الموجودة فيه، من تسامح وتعايش بين قومياته وطوائفه تحت مظلة الحضارة الإسلامية، ووعيه لمسببات الاشكال التي يخشى عليه منها.
“أنا شرقي وللشرق مدينة قديمة العهد ذات هيبة سحرية ونكهة طيبة عطرية ومهما أُعجب برقي الغربيين ومعارفهم يبقى الشرق موطنا لأحلامي ومسرحا لأماني وآمالي.”
رسائل جبران في ثلاثة محاور بارزة :
/ المحور الأول
يرى أ.الحبيل أن من يقرأ سيرته الذاتية وحجم معاناته وجروحه المعنوية على الصعيد الشخصي، مع حجم عزيمته في رسائله وإنتاجه، يجد مادة تحفيز يصنعها وجوده بأن في يد أبناء المهجر العربي مايفعلونه من مهام لأجل الشرق، ولكن بطريقة تتناسب ووجودهم في الغرب، وتتناسب مع ما يؤمنون به من رسائل، ووسائط لنقلها.
فجبران كان أديبًا كتب القصة والمسرحية والشعر، وكان رسامًا احتفلت بأعماله المتاحف، وكان فيلسوفًا مفكرًا لم تخلو كتاباته من رسائلِ اصلاحٍ .
كما يحمل إصراره التمسّك على الكتابة بالعربية، رغم تعلّمه الإنجليزية والكتابة بها، دلالة تيقّن واعتراف بإمكانيات هذه اللغة وماتحمله من رؤى جمالية، وهنا رسالة لصقل العربية وعدم اهمالها حتى في المهجر.
/المحور الثاني من الرسائل، تلمسه من كتابات جبران ورسوماته المتعلقة ،والمقتنعة بزخم الحضارة الإسلامية وآثارها، بمزجها الكبير لمكونات الشرق، رغم معتقده.
وهنا رسالة مازالت موجودة بقيمة الشراكة بين المسلمين ومسيحي الشرق، وكيف للبعد الحضاري الإسلامي من خاصية جامعة وحاضنة لكل التنوع الموجود تحت لوائه.
“أنا مسيحي ولي فخر بذلك، لكنني أهوى النبي العربي، وأكبّر اسمه، وأحب مجد الإسلام وأخشى زواله”
ويُشير أ.الحبيل إلى كتاب النبي ومسرحية إرما ذات العماد كأمثلة،
ونبوة الإصلاح الإنساني الموحية بفلسفة تنزع نحو التصوف التوحيدي وليس الوجودي، فخيالات جبران حملت رسائل إصلاحية يمكن أن تتنزل مع كل التجمعات البشرية، وليست عبثية عدمية.
ويمكن أيضًا فهم نزعته الشرقية التصوفية بتعلقّه الكبير بأدبيات الغزالي والإشادة بها رغم اطلاعه الواسع بالثقافة الغربية.
وهنا رسالة بوعي القيمة الشرقية وعدم الانهزام تجاه الحاضر المُسيطر.
/المحور الثالث
“خذوها يا مسلمون كلمة من مسيحي أسكن يسوع في شطر من حشاشته ومحمدًا في الشطر الآخر”
رسالة واضحة وصريحة، تلك الموجهة للمسلمين من شاعر مسيحي، لمقاومة استبداد الدولة العثمانية حتى لا تضيع قيم الإسلام وحتى لا يسيطر الغرب على الشرق.
إذ يقول: “إن لم يتغلب الإسلام على الدولة العثمانية، فسوف تتغلب امّم الافرنج على الإسلام”
وتفهم هذه الرسالة في مواجهة سلبيات الحكم وليس النزاع مع القومية التركية كما أورد في نصه:
“بينكم من يلفظ اسمي مشفوعا بقوله: هو فتى جحود يكره الدولة العثمانية، ويرجو اضمحلالها،
أي والله لقد صدقوا، فأنا أكره الدولة العثمانية لأَنِّي أحب العثمانيين..”
وإنما كانت الرسالة موجهة بوصفها الدولة القائمة آنذاك وشهد ما شهد الجميع من استبدادها وبؤسها، مع عدم اغفال جانبها الإيجابي.
واليوم جملة من الشباب يستدعي قراءات عبد الرحمن الكواكبي عن الاستبداد، والتي تعكس ذات الفترة، وحجم رسائل الإصلاح التي بُعثت لها.
وهنا رسالة لاستدعاء التأريخ بواقعية حدثه وليس مشاعرية لا ترى كل جوانبه.
ورسالة أخرى من نص جبران بأن المقصود هو الاستبداد واشكالاته، وليست رسالة كراهية ضد العثمانيين كعثمانيين، وليست ضد القومية التركية التي ندعم اليوم تجربتها النهضوية الجديدة.
ومن هنا نستقي فكرة اليوم في مقاومة الاستبداد، والتي تكون بعيدًا عن تشقق المكون الإنساني، وإنما انتاج ثقافة جديدة للتعايش وبعث روح الإصلاح الحقوقي والمطالبة بالعدالة المجتمعية.
ورسالة لأهل المهجر بالبعد عن أمراض الشرق في مرحلة اندماجهم في الوطن الجديد، فبنجاحهم وقوتهم سبيلُ إنقاذٍ للشرق.
اختار الأديب اليمني أ.حمزة المجيدي
نصوص جميلة تصبّ في ذاتِ اتجاه فكرة المحاور المتنَاولة عن جبران حيث قرا :
/أنا لبناني ولي فخر بذلك
/قصيدة المواكب
/رسالة إلى الآباء من كتاب النبي
وازدادت حيوية المقهى بمداخلات من الحضور، من بين قارئ لنصوص، وبين اقتباساتٍ، وتساؤلات، وكان الختام وعدًا بتجدد اللقاء في موعدٍ قادم بموضوع مختلف.
الخنساء