الجدل الفلسفي بين أكاديمية الغرب والتصوف

مهنا الحبيل

7/4/2020


(إن الحملات الغربية ليست شيئاً جديداً، بيد أن الحملات القديمة اقتصرت على السيطرة العنيفة على الشعوب الأخرى، ورغم كل جهود الدعاية التي نشرت، إلا أن الذهنية الشرقية ظلت بعيدة، أما اليوم فيوجد شرقيون مستغربون بالكامل، قد تخلوا عن تراثهم بالكامل وتبنوا كل انحرافات (الغرب) الحديثة)

(إن ما نطلق عليه، حضارة تقليدية هو في الواقع حضارة تقوم على مبادئ، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وحينما نتحدث عن المبادئ بصورة مطلقة، أو عن الحقائق الفكرية الخالصة، فهذه دائماً تشير إلى النظام الكوني وليس إلى أي شيءٍ آخر).

رينيه غينون

أول ما يقع في الرأي عن رينيه غينون لمن لهم قراءة ثقافية عنه، وخاصة في الرواق الغربي، أو الذي ينقل عنه من العرب هو أنه الشيخ عبد الواحد يحيى، الصوفي الشاذلي، الذي اختار مصر وأقام فيها، بعد أن كان باحثاً فرنسياً مستشرقاُ، فهو صورة الدرويش المُطوَّر أو الباحث الروحاني، الذي خرج عن إطار الحوار الفلسفي، لميتافيزيقا مجهولة.

ويُخيّل لمن يقرأ هذه الأوصاف عن رينيه غينون، بأن العودة إلى كتبه، تعني أن القارئ سيجد تسبيحات لاهوتية وتمتمات باطنية، تستفتح أو تتخلل مؤلفات رينيه، وكل ذلك غير صحيح، فبمجرد أن تبدأ بمقدمة كتابه أزمة العالم الحديث، ستجد أن الإرث الفلسفي ولغته حاضرة بقوة في لغة وخطاب غينون، وهو يقول في الفصل الأول من كتابه (لسنا في معرض طرح ميتافيزيقيا محضة للمعالجة هنا)(..) (ويمكننا أخذ الاحتياطات الضرورية حين نسمح لأنفسنا باستخدام المصطلحات دون أن نفقد أبداً رؤية المبادئ الرئيسية).

وبالتالي نحن هنا أمام نظرية ضرورية، لتقييم دوافع تحييد وتهميش فلسفة رينيه غينون، بدعوى إغراقه الروحي وكونه أحد الباحثين ذوي الجذور القديمة قبل إسلامه ومنذ كان معترفاً به في رواق الباحثين، وبأصوله الكاثوليكية، التي اعتنت بما اعتُبر دراسات ميتافيزيقيا، ولنلاحظ هنا إشكالية التعامل مع المصطلح ذاته، وما هو المرجع في تقدير توظيف المصطلح أو دقته.

وما هو المعنى المقصود، فهل كل غيب خارج العلم التجريبي، هو علم طقوسي لا يقوم على الحقيقة، هل الروحانية في تفسير الحدث والنظام الكوني هي حالة تبتل صوفي، يخضع لها حتى بعض علماء العلوم التجريبية في الغرب، حين يُصدمون بجفاف العلم التجريبي أمام ضغط وجدان الروح المتتالي، أم أن هذه المصطلحات لها أكثر من تفسير وتحتاج إلى ضبط علمي معرفي.

ومنه أن اليقين الغيبي، الذي تسير دلالته في كل أركان الكون، وتعبر منه دورة الروح والاستشعار في جسم الإنسان، ودورة الحركة الفلكية والطبيعة، هو أصلٌ معرفي علمي، سقط بإلغائه التكامل المعرفي الذي يحتاجه العالم حين أسقطته الحداثة المادية، ثم حوّلته العلمية التجريبية الرأسمالية إلى هذرٌ طقوسي، لا مكان له في أروقة المعرفة.

حسناً، فهل ذلك يعني أن كل فورة الوجدان التي ينطق بها الإنسان أو الباحث الفلسفي الروحي، هي أيضاً ادلة معرفة مقطوعة، كلا.. ليس بالضرورة ذلك.

ورحلة غينون كما غيره من مهاجري الفكر الغربيين للشرق، قد تتخذ مساراً، في بعض رؤاها، يحتاج إلى توقف وفرز وبالطبع نقد علمي، لكنه ليس النقد القائم على دستور الحداثة الرأسمالية، وإنما النقد المعرفي التكاملي لعلوم الحياة، وحالة التصوف كما هو عهد الإمام الغزالي الأخير، وحالات عديدة في الشرق، يُفهم الموقف منها، بحجم ردة الفعل أو ما يسمى بالصحوة الباطنية أي الجوّانية، (وليس الفرقة الباطنية).

وهي الجوانية التي تدرك حقائق المعرفة، بعد الإبحار الطويل، فتصل لما يسمى وحدة الشهود، وليس وحدة الوجود، أي أن الوجدان الداخلي مع تنقله في العلوم والفلسفة، يشهد في كل انعطافاته، دلائل الخالق المدبر، التي يقين سريانها في النفس والكون أقوى من العلم التجريبي.

وهذا لا يبرر لمحاوري المعرفة، تجاوز أدلة العلم، بل إن القاعدة القرآنية كرسّت دستوراً معرفياً في كل زمن في قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله), فالعلم هنا وشروطه وُضِعَ سبيلاً للإيمان، غير أن دلالة هذا العلم لا تقوم على عنصرية فكرية، تفرضها طقوسية روحانية أو دعوى علم تجريبي، وإنما نحكم عليها بإقامتها في مدلولات النفس والطبيعة.

وعندها تكون الخلاصة العلمية الفكرية قد تحققت، وتطابق علم العوام وعلم الخواص، أي أن علم العوام من غير الفلاسفة والمتكلمين، هو أيضاً له استشعارٌ معرفي يؤمن بالله وبالأخلاق وبمراقبة الضمير، دون أن تُقدم له أدلة علم محرر أو نظام توجيه سياسي ديني، وهذا بالطبع قبل أن يفسد هذا الضمير، وتتنازعه المصالح.

لقد أطلت في التوضيح لكونه، مدخلاً مهما في فهم الحالة الصوفية التي تحوّل لها رينيه غينون، حتى عدّه شيخ الأزهر، كمجدد للطريقة الشاذلية، وهي ما قد يُفسر الحساسية المتطرفة، التي يتعامل معها الرواق الأكاديمي الغربي، ومن يتبعه من المفكرين العرب معه، وإن كانت هذه الروحانية تفرض وجدانها على بعض المستشرقين، كما جرى مع لويس ماسينيون والحلاج.

وهي حالات تكررت مع غيره، وبعضها رُصد في كتاباتهم، لكن ظلت مركزية الولاء القومي والحداثي المصلحي، في النظر إلى الشرق تحكم قرارهم الأخير، فيعود أولئك الفلاسفة لشريعة الكولونيالية، لتحدد إطارهم المعرفي.

إذن هذا التداخل لا يختص به رينيه غينون، وكما أنه لا يفرزه من النقد، ولا يُسقط مثلاً إشكالية تداخل الرؤية لديه بين الهندوسية والإسلام، لكن هذا التداخل لم يكن مشتركاً عقائدياً، وإنما في فهم تفسيرات الروح في حضارات الشرق التقليدية، وموقفها الذي يتحد مع الإسلام في أولوية الروح، لكن التباين بعدها في رسالة هذه الروح، وكيف تتجه في الفكرة الإسلامية إلى حالة تنوير متوازنة مع الجسد، وتسقط في حالات أخرى في حفرة الخرافة.