كيف نقرأ السُنّة النبوية معرفياً؟
مهنا الحبيل
21/6/2021
تناولنا سابقاً إشكالية الرفض التي يتبناها بشراسة بعض المثقفين الإسلاميين, والتيارات التراثية للموقف من تقييم روايات الآحاد, المثيرة للجدل, من حيث مصادمتها للكليات القرآنية, أو للعقل المطلق, أو تلك المؤسِسة لتشريع ملتبس غير واضح في تاريخ الشريعة, ومختلط في دورته الزمنية بتوظيف اجتماعي أو سياسي, وركزنا حينها على أن رد روايات الآحاد أمرٌ رائج في جدل أهل العلم من قديم, احتجاجاً لم يعتقد كل منهم, بصحة رواية أخرى, أو اضطراب المتن المقصود ومصادمته لأصل قرآني كلي.
وأن هذه القاعدة ظلت مضطردة, في أزمنة عديدة, بعضها شهد مآسي لعلماء السُنة ذاتهم, أو علماء الفقه, أو في الفلسفة الإسلامية وغيرها, وطرحوا تحفظهم على بعض الروايات, وهو ما كان ايضاً مدخلاً لتصفية الحسابات بين بعض التيارات المذهبية القديمة, أو بين بعض العلماء ذاتهم, فأخذوا يُحرضون على رفاق العلم المختلفين عن مدارسهم, مستقوين بالسلطة, بحجة ضلال الإمام المخالف لهم, فيما كانت السخينة النفسية وحظوظ النفس أو الجهل, يلعب دوراً في القطع في تضليل الشيخ المجتهد.
أما في الإطار المعرفي والذي نعني به كيف نفهم, نصوص السُنة وتقريراتها المحققة, في وعي العالم الكوني, والرحلة الإنسانية, وكيف تتحد وتتفق معالم الرسالة في شقيّها الكتاب المُنزّل, والمقطوع بصحته من حديث النبوة وآثارها التقريرية للحياة البشرية, ومصالح الذات الإنسانية, وحركة عمران الأرض.
فإن المركز المعرفي واحدٌ هنا, فلا يمكن أن يقال أننا نعتمد القرآن دون حقائق السُنّة المعرفية, فهي هنا شريك مُكمّل وإن بقي للقرآن الكريم قداسته, غير أن المعرفة الإسلامية تستقي منهما, وعليه فإن رفض الميراث النبوي الذي يوضع في سياقه الصحيح, ويُفهم من خلال توافق النص وصحته, وعوامل تنزيله تشريعياً, أو عناصر فهمه معرفيا, هو تعسّف غير مبرر.
ولا يمكن أن يُقر هذا الرفض بناءً على زغل التراث, وارثه السيء الذي خُلط بعضه بالنص النبوي, بل من خلال مركزية التشريع ودقته, وتطابق الدلائل الكونية مع الرؤية القرآنية والنبوية معا, ووفقاً لذلك نسير في تتبع ارشاد الإسلام إلى معادلة الإنقاذ الروحي والأخلاقي, وصناعة التدافع العمراني الرشيد, للأرض وشركائها.
وهذا نجده حاضراً في الميراث النبوي, في المسار الاجتماعي والسياسي, وفي فهم التعامل مع تنوع الأمم, ومركزية المساواة فوق العرق واللون, ومراعاة أحوال الأمم وطبائعها, كما هو في فلسفة التشريع في الميراث النبوي. وفي دلائل الرشد والخيرية, ومساحة الطهارة وعناصر السلامة الجسدية والبيئية التي مجموعها, يمثل دستوراً أخلاقياً وفكرياً وعلمياً.
نعم هو لا يُقدم كمواد علوم بحتة ولا تطبيقية, ولا يُقحَم الفهم الكوني او الأخلاقي للتشريع, كنظريات علمية, وانما كدلائل كونية ومعرفية, تدعم كل العلوم الخيرية للبشرية, وتقدم دلائل متواترة عن صحة المعرفة الإسلامية, وعن تميزها لهذه الحياة البشرية.
ولذلك نُفرد الخطاب هنا عن هذه المدارات في فهم نصوص السُنّة, والتي بعضها أحداث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم, وبعضها تشريعات عامة, وبعضها استثناءات خاصة, وبعضها سكوت, وبعضها تعايش مع واقع وحياة اجتماعية, داخل العرب وخارج جزيرتهم.
كما أن بعض النصوص والتشريعات النبوية, منضبطة في اتجاه المصالح الدنيوية للناس, في أحوالهم وأرزاقهم, أو في نظمهم الاجتماعية أو السياسية, أو في مرونة العلاقات والتي تبقي دوماً مفهوم التدافع, أو النظام العقابي, تحت كليات المساواة والقصاص العادل, والعفو والإحسان, وهي ميراث ضخم محقق في السنن والسيرة, بني على بعضه مواثيق رشيدة, بين أمم المسلمين, وبين المسلمين وغيرهم.
ويؤخذ هنا في الاعتبار معنى التطور البشري في زمنهم, وفهم كل دورة تاريخ وما كانت عليه الأمم السالفة في ذلك الزمن, وما بين ما مكث في الأرض من حِكَم النبوة, وما كان زبداً في إرث تلك الأمم, حتى أن بعضها على سبيل المثال, كان له إرث قومي اجتماعي صراعي قديم, قبل دخوله في الإسلام, مع طوائف مسيحية أو وثنية, ثم ألبس ذلك الصراع رداءً دينياً كيّفت له نصوص الآحاد, بعد تزوير من ذلك الفقيه أو الشيخ, في حين كان النص في حادثة مختلفة, لا يجوز تعميمها.
وهذا قد يكون مشهوداً في صراعات العرب بين الأمويين والعباسيين, في الجزيرة وفي المغرب الكبير في الأندلس, أو في أحوال أرض الروم المواجهة للسلاجقة والعثمانيين, أو في صراع السلاطين مع الوثنيين في آسيا الهندية.
ولا يعني ذلك أنه يشمل كل حالات الصراع, ولا ينطبق على أقاليم دخلها المسلمون, من خلال توافق مع تلك الأمم أو من خلال استعانة بهم للخروج من عهود خرافة واستبداد ظالم, فوجدت فيه تلك الأمم الشرقية أو الجنوبية, خيرية سلوك, وسكينة نفس وأخلاق تعامل, وطهرانية روح وجسد, في المنظومة الإسلامية الجديدة.
فأقبلت على تلك الرسالة واطمئنت بها, حتى مع مقدمة صراع عسكري, يُقيّم ما جرى فيه بحسب مبادئ العدل الإسلامية, فلا يزكى التاريخ ولا يُلغى الإرث الروحي الحضاري للمسلمين فيه.
إن ردة الفعل اليوم عند بعض المثقفين العلمانيين وبعض الخطاب العربي التنويري, ودعوتهم لإسقاط السُنة النبوية, يقوم على تعجل وجهل, ومشاعر عاطفية متوترة, لم يحكمها العقل المعرفي, بناءً على وجود بعض النصوص التي لم يُحقق سياقها, أو لم يصح معناها, أو اقتطعت من سياق الدلالات المحتاج لتشريعها.
كما أن وضع معنى النص أو فلسلفة التشريع في الإسلام, تحت ميزان علوم الحداثة المادية, وهيكلها المقدس في الأكاديميات الغربية او الفلسفات الوجودية, والبناء على العقل الأزموي للعالم الحديث, وهو العقل الذي أسقط مسار العلم المعرفي, وسخر العلم التجريبي لصالح التوحش الرأسمالي, هو بذاته ظلم وإسقاط لحق الرسالة الإسلامية في فهم دلائلها الذاتية, عبر موازين عادلة لا منحازة.