الأزهريون الجدد وحاضر العالم الإسلامي
مهنا الحبيل
2/3/2021
كان لنبأ رحيل شيخ المالكية في مصر، أحمد ريان، وقع مختلف غير معهود، وقد يُحتج على ذلك بالصفات الفردية للشيخ رحمه الله، لكن الأمر يتجاوز هذا التقدير الخاص، يجب الأخذ بالاعتبار هنا أن شخصيات العلم الشرعي لا توجد لها منصّات إعلامية كبرى تنعاها، وبالتالي هذا الصدى هو ضمن فورة شعبية، في الوطن العربي، ومصر على الخصوص، تشير إلى معان سوسيولوجية دقيقة في تحولات الأفكار. وقد نعاه شيخ الأزهر، أحمد الطيب، وكتب عنه تغريدة عاطفية، أخذت أصداءً واسعة. وعلى الرغم من كل الحملة التي شنتها الوهابية السعودية على مشيخة الأزهر، في ذروة صعودها الأميركي، واختراقها الجماعات الإسلامية المصرية وغيرها، إلا أن الأزهر، بوصفه مؤسسة تاريخية إسلامية، ظل صامداً، على الرغم من التوظيف المتكرر من النظام السياسي له، وبالذات في عهد سيد طنطاوي الذي أسقط الحد الأدنى لاستقلال الأزهر وموقعه العالمي. إلا أنّ قوة الشيخ الطيّب، وإصراره على انتزاع مساحة استقلال من النظام، برزا بصورة كبيرة، فدلائل عداء الرئيس عبد الفتاح السيسي شخصياً، وأركان نظامه، وخصوصا الراديكالية العلمانية المتطرّفة، للطيّب، واضحة جداً للمراقب.
يبقى هنا التذكير بأن رؤى شيخ الأزهر لا تعني، بالضرورة، أنها فوق الحوار أو الرد عليها، باعتبارها اجتهادات قطعية، إنما الحديث هنا عن زاوية الموقف المعادي لاستقلال الأزهر وتوظيف حملاته المستمرة التي تُخطط لإطاحة الطيّب، واستبداله بأزهري على المقاس السعودي الإماراتي ونظام السيسي.
وعلى الرغم من أن الشيخ أحمد ريّان لا يمثل فكرياً، بعداً مركزياً في البعث الأزهري التجديدي، إلا أنه يُعتبر مساهماً رئيسياً كنموذجٍ للتواضع والزهد، حيثُ رفض منصب مفتي مصر مرتين، وقد تمثلت حياته في نموذج فقيه الصعيد البسيط المنطلق بين الفقراء، كرسالة دين وتقوى روحية، تعيش وسط البروليتارية الشعبية البسيطة، والغزيرة في عطائها، ونماذجها المبدعة التي قدمتها لمصر، وهذا لا ينفي وجود نماذج صعيدية سيئة. ولكن الملاحظ، أخيرا، أن إعلام “التوك شو” وشخصياته المتعددة، التي يُنفِق عليها مال الخليج العربي، أضحت قوة امتهانٍ وعزلٍ برجوازية عنيفة، ضد الإنسان المصري، وهي تضخّ يومياً حملة أكاذيب وتبريرات، لكل وجبة قمع وحرمان المواطنين من خبز المعيشة.
وهنا قضية اعتراض كبرى، أن شيخ الأزهر بذاته، بحسب الإخوان المسلمين، كان شريكاً في إسقاط ثورة 25 يناير، عبر المشاركة في الخدعة الانقلابية في 30 يونيو/ حزيران 2013. والحقيقة أن هذا الحديث غير دقيق، وقد استُخدم فيه الخلاف القديم بين الأزهريين والإخوان، ففرز الموقف الحقيقي للشيخ الطيّب هو أنه لا يزال يراعي صفته الرسمية، وأن يكون طرفاً مستقلاً أيضاً عن المعارضة، وأنهُ يُمثّل المركزية الشرعية، لا الكفاح السياسي، فقد أخطأ في 30 يونيو، لكن له بصماته في ثورة يناير، كما أن لبعض الأزهريين شهداء وشراكة مميزة. وهذا لا يبرّر، بكل تأكيد، أي مواقف اتخذها أحمد الطيب في إسناد السيسي، لكن دمغه من “الإخوان”، والتشنيع عليه، ورفض أي موقف إيجابي منه، يخضع أيضا للكراهية الحزبية، وليس للتقدير الوطني العام.
هنا نعود إلى الجيل الأزهري الجديد المؤيد لشيخ الأزهر، ولكنه مختلفٌ عنه في مساحاتٍ أخرى، والذي يشهد صعوداً حيوياً اليوم، ويؤثر في بنية الفكر المذهبي السُنّي، بل ويجتذب له الفكر الإسلامي العام، وله توازنٌ دقيقٌ في تناول قضايا الفكر المدني ومقاصد الإسلام في الحياة المعاصرة، خرج فيها من جلباب التراث السلبي.
وقد بقيت له أبعاده المذهبية، وقواعد أصوله الفقهية، غير أنه جيلٌ لا يعتمد التعميمات التكفيرية التي نزع لها أئمة مذهبيون، في أوج صراعهم مع الفكر التنويري بشقّيه، المدني العام أو الإسلامي. كما أن هذا التيار يبتعد اليوم عن ثقافة التبضّع باسم الدين، فإن لم يرفض القمع ضد المعارضة والحقوقيين، فهو لا يشارك في التشبيح عليهم، وقد أضحى حضور التيار مشهوداً على مستوى الوطن العربي والمهجر، ففي الخليج العربي ذاته، وفي مناطق عربية ومهجريه عدة، يتساقط اليوم فكر الوهابية، وتتوجّه إلى التيارات الفقهية الأُخرى، وبعض الشباب يرى أن هذه الأفكار المتلاطمة في الصراع الإيماني والشك، تحتاج أن ينزوي لفكر شرعيٍّ مختلف، ليعيد رسم تصوّره للحياة، خصوصا أنّ هذا الفكر يقدم وجبات فلسفة متوازنة لبعض الحائرين، ويُعيد ضبط دولابه في خطه الشرعي التجديدي، ويسعى إلى الحياد الإيجابي مع العمل السياسي، أي عبر تأييدٍ قلبي ولفظي للحقوق والحريات، مع حذر شديد من إسقاط الإسلام من ضمير الشعوب، ومن تشريعات القانون، ويبتعد الأزهريون الجدد، بمساحة واضحة، عن تيارات الحزبية الدعوية.
يصعد هذا التشكّل، في الحقيقة في أوساط متعدّدة، من حاضر العالم الإسلامي، تتساءل عما هو الحل بعد فشل حزبية “الإخوان” أو السلفية وغيرها، وليس لدى الأزهريين الجدد فكر عداء ولا تحريض على “الإخوان” والسلفيين، ولكنهم باتوا على قناعةٍ تامةٍ بفشل تجربتهم، وتأثيرها السلبي على السلم الأهلي لحاضر العالم الإسلامي.
كما أن مشروع مجلس الحكماء الوظيفي السياسي لأبوظبي، والذي شُرّع لدعم التطرّف الغربي ضد المسلمين والزمن الإسرائيلي، غير مرحّب به مطلقاً في هذا التيار المؤثر، حتى لو حضر شيخ الأزهر وبعض كوادر التيار مناسبات أبوظبي والرياض. كما أن هذا التيار يرفض التطرّف من المذهبيات التراثية العائدة، كالتيار الأشعري التكفيري الجديد، وهو محدودُ لا يمثل مدرسة الأشاعرة، يركّز على تكفير ابن تيمية، والتحريض على السلفيين.
السؤال الكبير: هل نحن في لحظة تشكل جديد في حاضر العالم الإسلامي، ينزع إلى قاعدة تفاهم مع الفكرة المدنية، تعالج خطأ المواجهة الصفرية التي كتب عنها محمد عمارة في رحلة طه حسين، وأن هناك مشتركات كبرى، حال دون التحالف عليها، لصالح الإنسان المسلم المعاصر، تعصّب مذهبي تراثي وتعصّب علماني، استثمرتهما الخلافات الحزبية بين الإسلاميين والعلمانيين، فقطعت طريق النهضة وانهار الشرق.