مدرسة والدي والأحساء

منذ بزوغ رحلة القلم، والأسئلة تتوالى علي عن علاقة مهنا الحبيل بالأحساء عن جذورها، عن مدرسته الاجتماعية وانتماء أسرته بتربتها، ومن حق القارئ الكريم أن أعرض لهُ من تلك القصة ما يُجيب على استفساراته ويُعرّفه بأحد أهم عناصر تشكّل شخصية مهنّا الطفل ثم الشاب، وهو اليوم يزحف الى المشيب، وأسأل الله أن يكون في رضاه وخدمة وطني الأحساء وأمتي والإنسانية عبر الفكر الإسلامي الرشيد.

ولإنّ بوابة دخولي للحياة والدّي رضي الله عنهما، واسمي وانتمائي حملته من اسم سيدي الوالد عبد العزيز بن مهنّا السعود الحبيل، وهو أهم مدرسة اجتماعية أثّرت فيني كثيراً وبنت شخصيتي وبعض طباعي فأسرد هنا الرحلة معه رحمه الله.

الميلاد والأصول

وُلِد عبد العزيز بن مهنّا السعود الحبيل رحمه الله 1320 للهجرة تقديراً شبه دقيق حسب ما أخبرني، وولد في ظروف صعبة للأوضاع التي تعيشها الأحساء آخر العهد العثماني. حيث اضطربت كامل الجغرافية الإسلامية وخاصة بعد عزل السلطان عبد الحميد، والحصار الأوربي ضد الدولة العثمانية والانهيار الأمني لمناطق عديدة.

وأحوال الأسرة التي توفي منها الكثير ولم يبقى حين الا هو ووالده والدته وخاله عبد الله –الملقب بالعربي- وشقيقه خالد وأخته عائشة، وعمّه عميد الأسرة عبد الرحمن الذي ساهم في تربيته وانضاجه واعداد عبد العزيز بن مهنا لمهمة صعود الأسرة مستقبلاً، وكان الوالد مرتبطاً بعمق الى أكبر حد بتاريخ جذور أسرته الإسلامي والوطني الاجتماعي في الأحساء، حيث تنتمي أسرته للجبور العقيليين ومنهُ شخصياً أخذت هذا الاهتمام تأكيداً وتكليفاً أن نكون مرتبطين بهذا التاريخ العربي الإسلامي للجبور العقيليين، ولكنّ الأسرة التي هاجرت بعد سقوط ملك العقيليين وتعقبهم من الحكم اللاحق بالقتل أو التضييق ،عاشت منعطفات صعبة.

حيث كان سقوط حكم آل جبر العقيليين عسكري شرس تحت ثلاثة أضلاع الغزو البرتغالي، ونفوذ سلطنة هرمز، وأطماع الحكم المحلي العشائري لآل مغامس والذي حمل نزعة تشيّع، والجبور العقيليين أبرز دولة عربية إسلامية قامت في المشرق العربي منذ اسقاط حكم القرامطة عبر العيونيين وبمشاركة جيشهم الذي كان غالبيته، من بني عامر أصول العقيليين، لكن أمر الحكم هو المحرك لآل مغامس ولم يكن هناك تعمق اعتقادي شيعي كما يظن البعض، ومحصلة ذلك مطاردة القبيلة وكل فروعها ومنهم أسرة الحبيل من قبل الحكم الجديد.

فنزحت الأسرة من الأحساء جنوباً وآوت الى قبيلة الرجبان المتفرعة من قبيلة الدواسر العريقة التاريخية ومكثوا في الوادي قرابة الأربع عقود فعقدت معهم حلفاً 940 للهجرة بحسب التقريب الوثائقي والتاريخي، لكن من الصعب تحديده إلا أنه اقترن بسقوط الجبور العقيليين ومطاردتهم، واستمرت هذه العلاقة بالمصاهرة والمجاورة في وادي الدواسر والطرف.

حيث كان حبيل الطرف امتداداً لتحالف من أسرتين الجبور العقيليين والدواسر، قطنتا الطرف بعد العودة من الوادي، وكانت للوالد علاقة ود خاصة وصداقة قوية مع رجلها الكريم وزعيمها الاجتماعي الأمير محمد العلي الحبيل رحمه الله، تشاركا معا في القيام بحقوق القافلين الى الطرف ومنها، ولا تزال العلاقة مع الأسرة الحليف التي اختلطت بالمصاهرة والرحم قوية في الطرف أو في وادي الرجبان العتيق.

وكان أول توثيق لعودة الأسرة الى شرق الأحساء منازل القبيلة، عن طريق الجد عيد بن محمد بن حبيل قرابة 1020 هجريا الى الطرف حيث كانت محطة العودة –سيحة الدحامسة-القريبة من الطرف مقر استقرارهم التاريخي، كما أن عدداً كبيراً من أُسر الجبور العقيليين كانوا يستوطنون بلدات الشرق لمئات السنين فعادت الأسرة لأصولها الديمغرافية.

سعد السعود الحبيل .. الجد المُلهم

وتأثر الوالد كثيراً ونقل لنا تفاصيل جمعها من روايات الأجداد وكبار السن فضلاً عن الوثائق التي آلت اليه والشخصيات التي ارتبط بها عبد العزيز بن مهنا لأكثر من ست عقود من 1320وحتى 1380 هجرياً، بين الطرف وكل بلدات الأحساء الى الجبيل والبحرين وقطر والكويت، والمقصود بهذه العقود الستة هي حصيلة مهمة للتاريخ الاجتماعي الذي أدركه في حين كانت وفاته رحمه الله رجب 1408 للهجرة، وكانت معلومات مكثفة عن قصة جده الكبير سعد السعود الحبيل وهو حفيد الجد عيد المشار اليه، والذي اشتهر ب (معشّي الطرفة).

وهو لقب له قصة لا يسعنا تفصيلها لكن الطَرْفَة شجر ينبت جنوب الطرف، وقد تراءى له ضيوف قادمين بعد أن كبرت سنّه وضعف بصره، فأمر ابنه عبد الرحمن أن يذبح لهم ويهيئ العشاء، فلمّا تأخر الوفد وأوشك العَشاء على النضوج سأله ولده: أين الضيوف – بابوي-، فأشار ناحيتهم الى جنوب الطرف وكان الوقت قرب مغيب الشمس فكان ما رآه ظل سدرة كبيرة من شجرة الطَرْفة، وليس وفداً قادما كما ظن، فأمر بنيه بدعوة من تيسر من أهل البلدة للعشاء فسمي لذلك، معشي الطرفة.

هذه الشخصية تأثر بها الوالد كثيرا رغم أن وفاتها 1285 للهجرة، وهذا يعني أنه لم يرى سعد السعود، ولكن كل الوثائق والقصص والحكايات عنه كانت تربطه به، وكان جده رجلاً كريماً حليماً سيداً في مجتمعه الصغير والأحساء, ودوداً أحبه اهل الطرف وقد كان اول من عُرض عليه ان يكون أميراً للطرف بعد انتقال أسرة السهلاوي -أمراء الطرف السابقون- منها لكنه لم يُحب ذلك له ولذريته, وحسناً فعل -وتولّاها أحد اركان الأسرة الحليف.

في حين كانت سيادة الأسرة الاجتماعية تتشكل بحضورها الودود وعنايتها بأهلها في الطرف وتآلفهم وتلقي القاصدين ودَوْرُ الإحسان الذي مارسه سعد السعود وانسحب على ذريته، حتى أن وصيته خُتمت بهذا الإحسان فأوصى فيها بإعتاق كل الموالي وبتسجيل قطعة نخل لكل منهم حتى تغنيه بعد الحرية، والوصية موثقة من القضاء الشرعي وهي لدينا ضمن محفوظات سيدي الوالد رحمه الله.

عمُّه المربي والقرار السياسي

وقد فقد والدي أباه وهو في عمر السادسة في طفولة حزينة ولكن عمّه عبد الرحمن هو من نقل اليه هذا الإرث ورعاه كحاضن عائلي وهو شخصية قوية وحازمة وذات علاقات واسعة ربطته مع شخصيات اجتماعية وتُجار من الخليج العربي والبادية.

واستمرت الأسرة بعلاقتها المزدوجة بين البادية والحاضرة حتى اليوم، وكان عبد الرحمن بن سعود ذو رأيٍ وهيبة ومن ذلك قصة حصار الطرف في خلافها مع المتصرف العثماني، الذي ألزم بمنع بيع التمور للبادية بناء على خطة أمنية تحّد من قطع الطرق ومداهمة البساتين فرفض الحبيل تطبيقها لوجود اتفاق مع قيادتهم تمّر بموجبها حركة التجارة بين العقير والأحساء، وعلمهم أن هذه الإجراءات الأمنية لم تكن لتصمد لدى الحامية التركية لتسارع الأحداث والاضطراب، وعليه فالتضحية بهذا الاتفاق خطير على حركة تجارة الاحساء ومنفذها الحيوي، وليس رفضا للتنظيم الأمني الذي يحمي الأحساء، وقد كان ذلك في وقت تسارعت في الانهيارات الأمنية للدولة العثمانية.

فقرر المتصرف وقد كان حينها السيد طالب النقيب حصار الطرف، حتى تُعاقب وتخضع للأمر، ولم يكن حينها لدى الطرف وأسرة الحبيل قدرة لمقاومة مسلحة للحامية العسكرية، فضلاً عن العواقب الخطيرة لذلك، وبحكم علاقات الوطنية الاجتماعية المتينة كان هناك جسر تواصل حيوي بين الطرف التي أحكمت اغلاق السور وبين قائم مقام الهفوف عبد اللطيف الحملي، يقوم عبرها بوساطة مع المتصرف، لكن كان هناك حاجة لدفع المتصرف الى فك الحصار.

وكان أمير الطرف في حينها أحمد الصالح الحبيل، قد طلب حضور كل أبناء الطرف الذي يسافرون في رحلة للغوص موسمية كل عام في قطر، وكان رئيس المجموعة الجد مهنا بن سعود، فكانت الخطة أن عبد الرحمن بن سعود يكتب لشقيقه مهنّا بذلك ويرسل له توجيه لقصد كبار التجار من قطر من أصدقائه، ومنهم -بحسب ما أذكر-حسين نعمة وعبد الله فخرو لتمويل أهل الطرف بالمقامع (أسلحة نارية بدائية) عبر علاقته المتينة معهم وهو ما حصل بالفعل.

ولعل ما أكتبه اليوم نقلاً عن والدي رحمه الله هو المصدر الأكثر توثيقا لما نقله ج. ج. لوريمر في دليل الخليج وهو أهم المصادر البريطانية في قصة حصار بلدة شرق الأحساء – والمقصود بلدتنا الطرف بحسب المطابقة التاريخية والحدث.

فك الحصار

وتوجه مهنا بن سعود ورجال أهل الطرف الى بلدتهم لمعونتها واقتضت خطته وشقيقه عبد الرحمن أن تُشعل النار في الحزوم الجنوبية العالية للطرف بعد المغرب عند اكتمال وصولهم، ثم تُرى من الطرف ويبدأ حينها إطلاق نار المقامع في الهواء، وفي ذات الوقت تُقام العرضة -رقصة الحرب- داخل الطرف كرسالة معنوية اعلامية، وهو ما نُفّذ بدقة، مما حمل قائد الحامية التركية أن ينقل للسيد طالب المتصرف وجود مدد ودعم لأهل الطرف، وأن مواجهتهم ستكون مُكلفة حين رأى النار تشعل عبر المدد الذي يجهله ويجهل عدده وكانوا قرابة السبعين رجلاً فقط في حين تُسمع صوت رقصة الحرب واطلاق المقامع أيضاً من سيّالة – الساحة الداخلية في الطرف- ، حينها استدعى السيد طالب قائم مقام الهفوف عبد اللطيف الحملي، الذي اقترح عليه الوساطة فوافق السيد طالب وأُنجز الأمر بالفعل وصدر فرمان العفو ورفع الحصار.

وثّق الوالد هذه القصة ونقلها بصورة دقيقة، إضافة الى موقف آخر مع الحامية، كان للزعيم الاجتماعي في النعاثل محمد بن سليم الملحم دوراً مروئيا تاريخيا قدمه للأسرة فيه، وموقف نبيل وشهم من الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين السابق لضيافته للأسرة واكرامهم في البحرين خلال الخلاف الذي وقع في تاريخ آخر حتى تسوية الأمر مع المتصرفية، لايسعنا تفصيله هنا.

وتأثر الوالد بهذه الشخصية وقائد الخطة في فك حصار الطرف وهو العم عبد الرحمن وهو العم الشقيق لوالدي وهو أحد أركان رحلة حياته الاجتماعية، أما الرعاية الودودة الحاضنة المشفقة فهي كانت لوالدته الكريمة والحضن الدافئ فاطمة بنت محمد السعود الحبيل وقد كانت أخر فرع يسمى العْربي، لبياض بشرتهم وفروسيتهم- وورثت رحمها الله باقي املاكهم وأوصى لها ولبنيها شقيقها لافتقاده للذرية رحمه الله، فكانت ذات ثراء جعلته تحت تصرف ولديها خالد وعبد العزيز، وقد حدثني شخصيات من خواص رفقة والدي وأصدقائه من اهل الطرف منهم والدنا عيد بن محمد الناجم ووالدنا مبارك الغفيلي ووالدنا سعد الجليدان ووالدنا سعود المشعل ووالدنا دخيّل الدخيّل وغيرهم، عن رحلة الوالد ومكارمه بعد ذلك التي كان يتجنب ذكر كثيرٌ منها خشية أن يمدح نفسه.

الشاب عبد العزيز في قلب المهمة

مرحلة الشباب التي بزغ فيها سيدي الوالد كانت صعبة جدا اقتصادياً، حيث حركة التمور وتجارتها تخضع لمسيرة تقنين منذ 1335 هجريا ومنها حتى بدأ انتاج النفط وتقاصر العائد الاستثماري للنخيل وللعيش الحساوي، وهي مصدر التموين للأسرة في حينه ولكثير من المُلاّك من أهل الأحساء، ومع ضعف المردود الاقتصادي، فقد بقيت الواجبات الاجتماعية التي يتصدى لها عبد العزيز بن مهنّا السعود في ضيافة القادمين للطرف وفي احتياجات من يقصده، فأصبح يلجأ لأملاك والدته التي ولته إياها برضاها، حيث كان وشقيقه خالد مِلء القلب والنظر، وكلما أتى محب ناصح يقول – لها يا أمي فاطمة حيث كان اهل الطرف يرونها أماً للجميع:

عبد العزيز أفنى الحلال في المواجب (الضيافة واجابة الحاجات)

رددت عليهم -جعله افدى رجليه-.

باع منزله لسُفرة ضيفه

لم يكن عبد العزيز مُبذراً شخصياً، لكنّه كان نموذج كرم فوق العادة لم يُطِق أن يأتي الطارق للطرف وقد عسُرت أحوال الناس دون مكارمتهم وكان الكرم والفزعة وحسن المعاشرة طبيعة متأصلة في أهل الطرف، وهكذا أخذ يبيع البساتين للنفقة على بيته وضيوفه، حتى أتى عليهم جميعا، وهذه شهادات لم يُقر بها لي الا بعد أن حدثني بها أصحابه، ثم اضطر أن يبيع غرفة من منزله لوفد قادم، ثم خشب الدنجل لسقف غرفة أخرى، حتى أفلس، فباع ما تبقّى من منزله، وقرر الهجرة.

فقرر أن ينتقل بوالدته ويرتحل الى الظهران بعد أن عجزت يده ولم يكن له وظيفة، بعد اقتراح ورعاية من أهل الطرف من العُمال الذين كان يتردد عليهم واهتمام من صديقه الوفي الخال الشيخ احمد بن عبد العزيز المبارك رحمه الله، والذي كان رئيساً لمحكمة الظهران في حينه وبعد ذلك رئيسا للقضاء الشرعي في الإمارات، والذي سعى له في وظيفة بسيطة وإمامة مسجد، وكان في كل مراحل عمره باراً بوالدته لدرجة الصرامة مع بعض زوجاته ولم يكن رزق بذرية في ذلك الوقت.

ووصل الظهران وقد بلغ بأمه العُمر حد الإقعاد فكان لا يخرج لعمله، إلّا بعد ن يُحمّمها بنفسه ويُطيّبها من أجود دهن العود ويفعل ذلك أول قدومه للظهران أيضاً مع من تبقّى من أمهاتنا من أحد –الموالي-اللاتي حررن وبقين في حضن الأسرة وقد أُقعدت تماماً، حيث كان يُحمم خادمة أمه ويطيّبها ويُجلسها بجوار أمه فاطمة عُربية، فيغشاها نساء الجيران الوفيّات في الظهران لمؤانستها وقد تقدم بها العمر وماتت رحمها الله بعد ذلك في الظهران.

الابن البار والأُم الرحيم

ورغم أنّ عبد العزيز بن مهنّا قد تقدم به العمر ودخل العقد السادس، ولم تكن لديه زوجة ولم يُرزق بذرية من الزوجات السابقات، إلا أنّ والدته لم تكن تكّف عن الدعاء له بالذرية وقد رزق شقيقه ورفيق عمره خالد بمولود سماه مهنّا ثم توفي رحمه الله في مقر عمله في أرمكوا بعد ذلك فكان مهنّا بن خالد الذي عاش أيضا حياة صعبة وعصامية ابن أخيه وكإبنه، وكأنما سلّم السيد العظيم لقدره الذي كان يظن أن هنا تتوقف رحلة الحياة فهمّه الأول كان البر بوالدته وصب ما لديه من قدرات بسيطة لسعة معيشة لها قدر الامكان، وقبل وفاتها وهي تلح في الدعاء حتى أن بعض نساء الظهران يقلن لها يا أُمنا عبد العزيز شيْبة، -طاعن في السن اليوم- وليس لديه زوجة فمن اين تأتيه الذرية؟، فترد عليهن سيرزقه الله من فضله.

وبالفعل فاتحه الشيخ أحمد المبارك صديقه الدائم واقترح عليه الزواج، فضحِك الوالد وقال من يزوجني يا شيخ احمد وانت تعلم الحال ومن يصبر علي وعلى حقوق أمي، فكان المقترح فوري ببنت عم الشيخ والدتي العظيمة الأم الرؤوم طرفة بنت الشيخ محمد المبارك تغشاها الله برحمته، فأدركت والدته قبل وفاتها مجيء ذريته مريم ثم خالد ثم مهنّا فقرّت عينها بإجابة دعائها وتوفيت بعد ذلك راضية طيبة الخاطر.

ثقافة التاريخ الاجتماعي الغزير

كانت ثقافة عبد العزيز بن مهنا خليط من تواجد أسرته التاريخي وقصة القبيلة والدولة ودورها الإيجابي والوعي العام لخطاب المجتمع وملازمته للعلماء والقيادات الاجتماعية البارزة وحيث تتقاطر أخبار الجزيرة على بيته أو بيوت أصدقائه، وكان دائما يكرر على مسامعي قصة اجود بن زامل وبيتي الشعر الشهيرين فيه:

يارب عد النايبات عن اجود لو مـالـي مـن عطــاياه فايدة

نهاره ليل إذا اشتدت الوغى وليله نهار من تكاثر وقايده

وتشكّلت ثقافته في توقيت دقيق جدا لتاريخ الجزيرة العربية وتأسيس الدولة السعودية الثالثة حيث كان عمره في دخول الملك عبد العزيز للأحساء قرابة 12 عاماً، وكان مرافقاً لصيقاً لعمه عبد الرحمن، كان الدينُ لديه أصيل ومتجذر وحفاظه على الفروض إماما ومأموما صارماً، وهو كما أخبرني جزءً من تربية عبد الرحمن بن سعود له، ولكن كانت فكرته عن الإسلام واسعة جدا في الخُلق والإحسان وطيب المعشر مع الناس، وكان يُحب العلماء وطلبة العلم، لكنه يكره الواعظ المنافق، أو العالم الذي يتخذ علمه بابا للاسترزاق عند ذوي النفوذ ويظلم الآخرين.

بنى علاقات واسعة مع شخصيات اجتماعية عديدة وكان ينظم زياراته لهم حتى حين انتقل الى الظهران، فيُخصص عند نزوله الصيفي للأحساء زيارات دورية، فمع مجلس أنسابه آل مبارك وحضوره فيه، يعتني كثيراً بمشايخ علماء الكوت وخاصة الشيخ احمد الملا ومن بعده ابنه عبد الرحمن ومن النعاثل صديقه الوجيه الاجتماعي خليفة الملحم وآخرين منهم عمدة العمران الوجيه عبد المحسن العيسى.

الطرف التي سكنت قلب عبد العزيز

وكانت الطرف روحه المزروعة في وجدانه يوميا أو شبه يومي يتنقّل الى أصدقائه، زيارات شخصية أو من كانت لديهم دورية عصرية أو بعد العشاء، وأيُ مناسبة فرح أو ترح يسعى لها ما دام في الأحساء وأحيانا يأتي من الظهران، كنتُ اتنقّل معه وأنا طفل من براحة الغربية الى الشرقية، وفي أحيانٍ كثيرة كعادة أهل الطرف، يعترضونه في هذه السِكك والطرقات من السُنة والشيعة فيدعونه للقهوة فيبادر بالإجابة.

عبد العزيز بن مهنا الإنسان

وفي مناسبات الزواج كان دائماً على يمين العريس في بعض الحفلات يمشي الموكب من مسجد سيّالة حتى ساحة العرضة التي كانت أحيانا تشعل طبولها وسيوفها في براحة مهنا وهي براحة سميت على والده ورغم صغرها ربما 800 م الا أنها كانت كبيرة في أعين الطفولة وأمام تمايل الرجال وسيوفهم في رقصة الحرب، كانت روح عبد العزيز بن مهنا ودودة منفتحة، وطّن لدي ثقافة التواضع واحترام الناس، بكل شرائحهم وانتماءاتهم الاجتماعية وكان يغرس فينا، أن السيادة والمروءة بالأفعال وليس بالتفاخر ويُكرر: (الأجودي من جاد فعله).

وكان لسيدي الوالد صفتان لا تكاد تغادره، الأولى أنه كان مدرسة في صلة البر بالأرحام، بحيث يتعقب رحمه الله الرجال والنساء، ويصلهم ولو صغروه، ولو كان هو صاحب الحق، ويصل أصدقائه وأحبابه، ويجدول كل ذلك في حياته اليومية.

كما أنه رغم فقدان بصره وصعوبة سمعه في آخر سنواته، وكون شخصية عاشت مفاصل صعبة وقادت مواقف جدية تاريخية لأسرته، إلّا أن الطُرفة والممازحة والمُلاطفة برنامج مألوف لديه مع الصغير والكبير، فيأنسون به ويأنس بهم، ويُذهب عن كل غريب وحشته، ويتبسّط مع اقربائه وأصدقائه.

ومن هذا التنوع في علاقاته وانفتاحه كان يجلس مع أصدقاء خُلص في سوق الظهران من ذوي المحلات منهم من جهات الأحساء ومنهم من القطيف يبادلونه الود والسمر والممازحة اللطيفة، ومع ذلك فكانت لديه شخصية اعتبارية لمن يعرفه، وله روح وطنية اجتماعية متحفزة للأحساء، فلا يقبل أبداً ولا يسكت عمن يتعرض لها بسوء وغمز خاصة مع انتشار العصبيات الإقليمية في السعودية، وكان يدفع بقدر ما يستطيع أي مسار للمطالبة باحتياجاتها وحقوقها.

التاريخ الاجتماعي السياسي للجزيرة

وكان منفتحاً تاريخيا على الجزيرة العربية، ويستوعب عبر النقل والاستماع الواسع لتاريخ مناطق نجد وحائل والحجاز فضلا عن ساحل الخليج العربي، بالنقل الشفوي الذي لم يكن له مصادر دقيقة الا عبر اخبار الرجال حينها، ويُعلق على تلك الاحداث بعد زمانها، أي أنه كان يعيش تلك الفصول التاريخية سواء باستقباله للضيوف بادية وحاضرة، أو حين كان مرافقاً لعمه، فشخصيات كالملك عبد العزيز ومحمد العبد الله الرشيد وزامل السليم وغيرهم كان لديه حصيلة خاصة عنهم.

وكان يحفظ عن غيب مجمل القصائد لما يسمّون في حينه دولة النبط من كبار شعراء الجزيرة أو من الشعراء المحليين، بدءاً بابن دلال راعي الجفر- اقرب بلدة للطرف- ومن شاعر الغزل الرقيق حمد المغلوث وسليم العبد الحي في الأحساء، الى بركات الشريف والقاضي وابن سبيّل والعوني الذي كان يحفظ ديوانه تقريبا، أي أن جزءاً مهماً من التاريخ الاجتماعي السياسي للجزيرة كان في وعيه وفي تعليقاته معي، وبما فيها تفاصيل التعامل اليومي لمجموعات وقصص الإخوان (المطاوعة) المتشددين وتشكيلاتهم وكيف كانوا يختبرون الناس ويمتحنونهم في حين لا يعرف كثيرٌ منهم مفاهيم أساسيات الدين.

لم يكن عبد العزيز بن مهنا طالب علم دائم لكن كان يحضر دروس المشايخ بكثافة وأسند له الشيخ عبد العزيز بن حمد المبارك خلال زياراته للطرف للتعليم بعض المهام لمراجعة الدروس مع أهل المساجد، لكن كان وعيه للشريعة متوازن، وكانت عبادته متصلة بقيام الليل دوماً، على جزأين، وحين قلتُ له لماذا يا أبي لا تقوم في آخره وتكتفي بدل القيام مرتين فآخره أفضل، حيث كان يقوم في الثلث الأوسط والثلث الأخير، فقال لي هكذا تعلمت من المشايخ وبالفعل تبين لي بعدها أن ذلك من السُنة.

الظهران المتُحركة

كانت له جسور مع العُمال والمثقفين من قاطني الظهران، وكان مقربا بالطبع من العمال من أهل الطرف، وعايش حركات الاحتجاج والاضرابات التي تطالب بتحسين وضع الموظف السعودي في أرامكو ورفع التمييز القاسي عنه، والذي تم تعديله وتحسينه بعد ذلك عبر مطالبتهم، ولم يكن شريكا فيها فعمله كان موظف مدني ضمن هيئة الأمر بالمعروف والتي رفض فيها كثيرا من الأمور التي تنتشر في أوساطها، لمخالفته لها ولتشددها في قناعته الدينية وكان يحدثني عن ذلك، وتضامن مع العمال الذين تعرضوا لمواجهات وكانت له تجربة خاصة مع أحد أعز أصدقائه وصاحب أطول إضراب في الحركة العمالية وهو عبد الرحمن بن عيد الناجم رحمهم الله جميعا.

حيث كان من أهلنا أبناء الطرف وكان صديقاً خاصاً ظل الوالد يزوره في معتقله، وحين ساءت حالته بعد الإضراب وأوشك أن يدنو من الموت، ناقشه الوالد وضغط عليه لمكانته المعنوية حتّى رضخ أبو عيد لذلك وفك الإضراب الذي سُجل له ولكفاحه لحقوق العمال السعوديين، ولكن بقيت له حياة جديدة وعطاء حقق فيها نجاحا نوعيا له ولأسرته واستمرت صداقتهما وودهما حتى فرقهم الموت.

كان يتفهم موقف النضال الحقوقي وقضايا العرب ولكنه كان ضد الحركة الناصرية وبعض مشاريع عبد الناصر وتهميشه للإسلام، ومع وجود صداقات مع مجموعة من القوميين رأيت بنفسي وأنا طفل كيف يحتفي بهم الوالد ويحتفون به، إلّا أن مجموعة أخرى كانت تحمل عليه وكادت تعتدي عليه لتصريحه بنقد عبد الناصر في ذلك الوقت وخاصة في حرب اليمن.

كانت رحلته الاجتماعية في الظهران مفتوحة بدون تكلف وبحسب ظروف الصداقات التي يعيشها المجتمع البسيط، ولم يكن يتحدث عمن هو وما قصة أسرته، حتى أن الكثير من أهل الظهران لم يعرفوا من هو في بلده، وانما يعقد علاقاته ببساطة ومودة، وإن خصه الله بصديق عظيم هو العم حسين بن محمد الملحم بارك الله في عمره الذي كان يعرف والدي اشد المعرفة فكان زميل عمل كالأخ الصغير له لا تغيب فزعته ولا مراعاته لسيدي الوالد، ومن اوفاهم والدي سعد الجليدان من الطرف، كما كان الخال الشيخ عبد الله بن إبراهيم المبارك رحمه الله من أخص أصدقائه من الظهران الى الأحساء وكذلك الشيخ عبد الرحمن الملا.

وفي 1397 للهجرة باتت الأسرة الصغيرة أمام تجديد حضورها وروابطها ومع أن عبد العزيز بن مهنا لم يكن لديه في ذلك الوقت إلاَ ابن أخيه مهنا بن خالد وابن عمه الذي توفي والده وهو في بطن امه عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سعود وأختيه مريم وسارة، إلا أن هذين الشابين عادا لعمهما بعد رحلة كفاح ونجاح وبروز شخصيتهما في أروقة العمل والمجتمع المحلي في بقيق, وفي مساعدة الناس وقد شكل كل منهما أسرة صغيرة بعد كفاح عصامي صعب وأضحى كل منهم سيداً بعطائه ورقي أخلاقه وكرمه.

فانطلقت رحلته الجديدة بعد عودته للأحساء 1397 للهجرة، وصناعة الجسور والروابط، حتى فجع بوفاة ابن عمه عبد الرحمن وزوجته الثانية وهي ابنته البارة الوفية مريم وطفلتهما الصغيرة واصابة ابنتيهما، فانهار قلبه وتصدع وكانت رحلة المرض حتى الوفاة الى الملأ الأعلى رحمه الله.

الأحساء المشهودة

في حضوره الأحسائي كان يستدعي واقعها وتاريخها وكان ناقدا لوضعها وما عاشتها من ظروف وتخلف تنموي واسع، مؤكداً أن ذلك لم يكن العهد الذي بموجبه التحقت الأحساء بالدولة طواعيا حيث استحقت الكثير من التنمية، كان معجبا بالملك عبد العزيز مقتنعا بمشروعه الوحدوي وتأمينه المجتمع، ولكن كان يتألم للوضع التنموي، وكان منصفا ويتحدث بنزاهة وشفافية عن الزعماء الاجتماعيين السياسيين الآخرين في الجزيرة.

علاقته بمحسن العيسى لم تكن لأن هذا وجيه اجتماعي شيعي وذلك سني بل مودة شخصية وعززتها الروح التي عايشاها وكراهيتهما المشتركة التي رأيتها بنفسي للتدخل الإيراني وما يُهيمن عليهما من شعور الألم العميق بحاجات الاحساء، ونقدهما المشترك للوجهاء الذين انشغلوا بمصالحهم على حساب مصالح الاحساء.

قصتُه رحمه الله كانت مشعلاً في حياتي وسقتني نبضات الوعي الأول بل أسست فيني جوانب عديدة لا تزال في وجداني.

وقد يرى القارئ الكريم وهذا حقه، أنه ليس مُلزم بمعرفة عبد العزيز بن مهنا، لكنني ككاتب سَجل له بصمة مع زملائه مثقفي الأحساء أقدم أحد روافد التأثير الكبرى في حياتي كحق لسيدي الوالد الذي أراه شخصية عظيمة بين عيني وفي أحسائيتي، التي علمتني كيف أحب الناس في كل إقليم وكل الوطن، وفي وطننا العربي الكبير وأمتنا الإسلامية وأسرة الإنسان، رحمك الله أبا خالد نعم النبراس يا مولاي وتغمدك ووالدتي برفقة الهادي في جنّات رب النّاس.

*بدأت كتابة هذا المقال في ذكرى مرور ربع قرن على وفاته ولكني تأخرت لاعتنائي به وخصوصيته في نفسي واليوم الذكرى الثامنة والعشرين لرحيله.