فقه الأركان وفقه الإنسان والعُمران
مهنا الحبيل
10/5/2022
يتجدد الجدل دوماً عند صعود مشاعر المسلمين أمام التحديات السياسية، والمظالم التي يعيشونها، بمفهوم العلاقة مع الإسلام والعودة إليه، للخروج من دائرة التيه أو سيطرت القوة الغاشمة، أو محاولة الإمساك بحبل الإنقاذ للمجتمعات، ومع بأس المساحات الكبرى التي يتعرض لها المسلمون، وتنوع التوحش الذي يلاقونه والتمييز الممنهج، فإن عودة صوت الدين الإسلامي تتردد في ضميرهم، خاصة بأن حُجج الخصوم في تنوعهم بين القوى الكولونيالية من الغرب والشرق، أو تطرف بعض دول الأطراف كالهند، تحتج بخطورة الإسلام ذاته، والعمل على نقض التمسك به.
ومؤخراً يشهد حاضر العالم الإسلامي عودة جديدة للمنهج المحافظ، بعضه بخطاب متزمت وبعضه يعود لإرثه التراثي المحض، فيتمسك به ويحشد ذاته ومحيطه عليه، خشيةً من سقوط الإسلام في أرضه أو في صدور بنيه، وهي صورة متفهمة تحت قصف الحداثات المتطورة، والتي تدخل كل عقد وأحياناً كل عام، دورات شذوذ وبلبلة وعصف ينقض مفاهيم الإنسانية ذاتها، فضلاً عن المرتكزات الإيمانية للفرد المسلم.
ويُحشر الناس في غرفة مظلمة في ظل وسائط الإعلام ومشاريع الدراما والسينما، وقرع السوشل ميديا والهجوم الثقافي الممنهج من وسائل الإعلام الغربي، التي تنطلق من دول الإتحاد الأوربي وأمريكا، والهجوم المعاكس لبعض اللاجئين واللاجئات، الذين يقوم بدور وظيفي أو تطوعي لشيطنة الإسلام، يستشعر حصارها المجتمع المسلم وهو يبحث عن النور، الذي لا يهدّئ روعه إلا من خلال استمطار الإيمان الروحي، وأن ما ورثه من هدي الإسلام على تنوع مذاهب الناس هو أكثر سكينة، وأسلم مآلاً من ضجيج التقدم الغربي.
هذا الاستشعار لا يخص الفئات المحافظة بل حتى المزاج المسلم المعتدل والمنفتحين من المسلمين الذين يعيشون أجواءً مدنية مفتوحة، وكذلك جمهور التيارات الإصلاحية، فالسؤال يُطرح هنا بقوة داخل الضمير إلى أين يأخذنا هذا التقدم المزعوم، إنهُ يشحذ قوته لنزع الإيمان من قلوبنا وخطف أطفالنا من أحضاننا؟
ونُلاحظ هنا بالمقابل أن تيارات الشك أو الإلحاد وإعلان الخروج عن الإسلام، ايضاً مستمرة، وكأننا في جزر معزولة تماماً، وهو ما يعني أن قوة الاستشعار بالهجمة المناوئة للإسلام، التي تتخذ العودة للمحافظة ومذاهبها ورؤاها درعاً للوقاية، لا تُعالج ذلك الخلل الكبير الذي يعيشه سؤال العقل والروح في مجتمعات المسلمين.
رغم أن التأمل العميق في الصفحة الأخرى من دعاوى شيطنة الإسلام، تُبصر بيقين أن فكرة التقدم الآلي المعزول عن الروح، المنفصل عن القيم، لم يُحقق معالجات جذرية للأزمة الأخلاقية العالمية، ولا سكينة الفرد، ولا حتى ضمان استقرار السلم الأهلي، في قلب أوروبا الحديثة، التي يرتفع فيها اليمين العنصري وتتراجع الدعوات اللبرالية المتحججة بالحرية والمساواة، وينكفئ الناس على عصبياتهم، فضلاً عن عودة طبول الحرب داخل الأمم الغربية.
وهناك سؤال آخر وهو هل حالة الفرد والأسرة الغربية في مواجهات الجرائم، والاعتداءات داخل العائلة الفطرية أو المثلية، هي في مسار انضباط وتحسّن أم أن الإحصاءات في الصراع الأسري والعنف والسقوط والانتحار، لا تزال تُمثّل أرقاماً كبرى، هنا يبرز أيضاً مأساة النظام الاجتماعي القانوني في الشرق، واستمرار البغي على الضعفاء من المرأة والأطفال، وطغيان العنصرية الاجتماعية والتعديات اللا أخلاقية، ثم يحتج بعض المجتمع بالإسلام، فيطيش العقل الآخر وهو يقول لهم أين ما تزعمون مما تمارسون وتصمتون عنه.
هنا يبرز لنا قلب القضية والذي يُمثّل ضلع الحل المفقود، إن الإسلام رسالة تكوين وتشريع وتنظيم، وفلسفة أخلاقٍ وعمران، ونصوصه وكلياته ومقاصده متعددة بما يسع دورات الزمان، وعليه فإن فقه الأركان من حيث العبادات والشرائع الفردية، لا يُغطي تلك المساحة الكبرى في حياة الأرض وأجيال العالم، ولذلك فإن فقه الإنسان والعمران الإسلامي هو السبيل التشريعي، للوصول إلى تطبيقات عملية لحياة الفرد والمجتمع والدول، ولتنظيم علاقات المختلفين.
إن اعتقاد البعض في الخطاب الديني اليوم، أن الحل عند كل مأزق أو تضييق أو سقوط داخلي للمجتمع، هو بالعودة لفقه الأركان العبادية بحسب كل مذهب، ليعالج به أزمات الناس وصدمات المجتمع وكوارث الأخلاق، وإسقاط الأبعاد القيمية، فضلاً عن مواجهة اللغة العقلية والنرجسية المتعالية باسم التقدم الغربي، هو خطأٌ كبير.
فهو فقه لا يمكن أن تنهض به المجتمعات، ولا أن تواجه أزمات الفكر ويُرد على الثقافات العالمية المنحازة، التي تتجلجل في صدور الشباب، وهذا كله لا يعني أن يُلزم الفرد بالتخلي عن مذهبه العبادي ولا حتى عن فروع اعتقاده التي وصلته بحسب بيئته، مع التأكيد بأن المعيار مراجعة الذات لحسن تعبدها الأخلاقي، واتباعها لم يَرشُد من فكر يُرجحه الإيمان والعقل فيتبع أحسنه.
وعليه فإن الفتور أو الانقطاع عن حرث مسارات النهضة في الشرق، في الوطن العربي وخارجه، هو ظاهرة تخلي عن الدواء في منتصف الطريق أو في بدايته، وعليه تتضاعف آثار الانتكاسة على المجتمعات وعلى الأفراد، لأنها تترك السير في طريق التصحيح، الذي ولو كان طويلاً، فهو يهدي إلى الرشد الذي يتطابق مع الفطرة الإنسانية، فتبدأ مفاهيم الرؤية الكونية للإسلام في تفاعلها في ضمير الفرد، لرعاية قلق العقول واهتزاز الوجدان، فتهدأ وتتلمس الدرب المضيء الذي يُصلح حال الفرد، ويَصلح به حال المجتمع في ذاته وأطيافه، وتنتظم الشعوب في مسار التقدم الأخلاقي.
هذا التقدم متباينٌ تماماً عن المرجعية الرأسمالية، فمقياسه سلامة النفس للإنسان، وسلامة البيئة وانضباط العلاقة بين أسرة الوطن أو نسيج المجتمع، وهذا لا يُمكن أن يتحقق دون فهم المعضلات التي عصفت بالشرق المسلم، والتي عززت ثقافة التخلف والتجهيل، ثم أُنهك ذلك الجسد القومي للمجتمع، في أقطار عدة أو مهجرهم البعيد، فانهارت ممانعتهم الفكرية، وتمكن منهم بأس المعتدين الظالمين، فاهتز بنيانهم من الداخل وأُسقطت حقوقهم كمواطنين.