لماذا نعود لفلسفة الأخلاق عالمياً؟
مهنا الحبيل
21/6/2022
في الجولة التي قادني فيها د. ذو الكفل حسن نائب رئيس الجامعة الإسلامية العالمية في كولالمبور، توقفتُ ملياً عند معرض الجامعة خاصة حين كان يشرح لي المضيف الكريم، رحلة التأسيس التاريخي لهذه المؤسسة الأكاديمية المهمة للغاية، تأملتُ صور الآباء المؤسسين الماليزيين، واستذكرنا معاً صاحب الفكرة الأولى في تأسيس الجامعة وهو العالم العراقي الراحل د. طه جابر العلواني رحمه الله، وأمام المراحل التطويرية والتعليمية للجامعة، كان شاهد الإنجاز كبيراً لرحلة د. العلواني ورفاقه الماليزيين في تدشين هذا الصرح.
ولا تزال الجامعة تُقدم منح بعثاتها لحاضر العالم الإسلامي، والذي تزداد فيه حاجته القصوى لظروفه السياسية والاقتصادية، وبالذات بلدان الوطن العربي، ولاحظتُ أمام هذا السجل الأكاديمي والثقافي والتعليمي كيف باتت هذه المؤسسة صرحاً كبيراً، أخذني المشهد إلى مبدأ الإنجاز وهو تفكير د. العلواني الذي دشن بعد ذلك عدة مؤسسات، ما يؤلم هو أن رحيله في عام 2016 وهو منتصف العقد منذ هجوم الثورات المضادة، لم يترك صداً مستحقاً لهذا المفكّر الإسلامي العراقي الكبير.
ولم يكن ذلك لجهله بالضرورة ولكنه كان أيضاً بسبب الموقف من رؤاه التجديدية، لسنا بصدد عرضها وعرض رؤية معارضيها، لكنها لحظة اهتمام فارقة في إشكاليات الفكر النهضوي الإسلامي التجديدي مع الرأي الديني الآخر، ليس بسبب منع أحقية الخلاف ولا أهمية النقد، ولا تزكية كل أطروحات الفكر التجديدي، ولكن روح المقصلة الجاثمة على منابر وتكتلات حاشدة أو مؤثرة على جمهور الخطاب الديني.
انتقل التأمل خلال الجولة الحيوية وبعدها، إلى مراجعات أخيرة، عدتُ فيها إلى آخر أيام حياة المفكر الإسلامي الكبير د. مالك بن نبي رحمه الله، وهي موسم حزنٍ عميق، شعر فيها بإحباط ساهم فيه الموقف المعادي للرئيس هواري أبو مدين لفكر مالك بن نبي وثقّه تلاميذه، ولكن كانت هناك حقيقة أخرى في كلمات مالك بن نبي، وخاصةً حين قال أن فكرنا سيأخذ وقتا للانتشار قد يحتاج إلى ثلاثين عاماً، وقد حصل ذلك لفكره وشروط النهضة قبل ذلك.
إن البعث الفكري الذي أطلقه مالك بن نبي وغيره من الإصلاحيين الإسلاميين، تعرض لتجميد شرس بعضه أخذ موقع التعظيم له لكن دون فهم مدرسته أو جوهر منطلقه، ولذلك تعطلت مساحةً كبيرةً من المادة التي كان من الممكن أن يُبنى عليها فكر النهضة، في أكثر من مسار فلسفي وتشريعي وأخلاقي، واليوم هناك استئناف للمسيرة، رغم وجود المتحفظين عليها، فهي تخترق مساحة جديدة ويلتف الشباب المسلم العربي وغير العربي عليها، ربما كانت رحلتي الأخيرة لكولالمبور مجسٌ مهم لهذا الأمر.
لقد كان اهتمام الجامعة الإسلامية العالمية، ومؤسسات حركة الشباب الماليزي الإسلامي شاهداً في هذا الطريق، وهذا الرصد لا يقف عند زيارتي، فالجامعة تحمل سجلاً من التفاعل من أساتذتها وأنشطتها، قبل هذا الهامش الصغير الذي أطللتُ عليها منه، الشاهد هنا هو أن هذه المؤسسة الأكاديمية الماليزية، التقطت باهتمام من بعض طلبتها وأساتذتها جدل الفلسفة المعاصر، وهي في تقديري من أهم المنصات التي يجب أن تعتني بهذا المسار، وتوليه أهمية بالغة.
فمسمى الجامعة ورسالتها وارتباطها بالمفهوم والمصطلح الحضاري، يضع عليها مسؤولية بالغة، رغم أنها مسؤولية مشتركة، قد تكون قامت بها بعض الجامعات في حاضر العالم الإسلامي، علمتُ بها أو جهلت، لكن ماليزيا ذات التعدد والمسيرة الفكرية، والملكية الدستورية والحياة البرلمانية، التي عاشت كل مراحلها بحضور القيم والجوهر الروحي الإسلامي، تُمثّل أيضاً حالة وصل مهمة بيننا وبين الأكاديمية الغربية، من خلال الشخصية الماليزية المرتبطة بالإسلام المنفصلة كلياً، عن روح التطرف أو الراديكالية.
هذه المساحة مناسبة حتى في علاقة ماليزيا الخاصة ببريطانيا، وأعضاء التكتل المشترك لمستعمراتها السابقة، فهذا النطاق لسنا نشير إليه لتحويله لمنبر هجوم على الغرب، رغم استحقاقه للنقد والنقض الفلسفي، ولكن التطرف الغربي والانحياز ورفض منح مساحة لفهم فلسفة الشرق، يساهم في العزلة الدولية ويواصل قطع الطريق أمام المعرفة الإسلامية الجامعة.
إننا حين نُذكّر بهذا الانحياز في الغرب، لا نحكم بالمطلق على كل مؤسساته الأكاديمية ولا أعضاء الرواق التعليمي فيه، بل إن هناك عددٌ لا بأس به من الفلاسفة والمفكرين لهم روح تجاوب كبيرة، مع النظريات المعرفية والأخلاقية الأخرى، ومنها نظرية المعرفة الإسلامية وبوابتها الأخلاقية، ولكن يتضح لك حين تتأمل، أن هناك رابطاً قوياً بين مأسسة الجامعات في الغرب، والقوة المركزية الرأسمالية، لا تُشجّع أبداً على فتح باب النقاش والنقد الحر، لتاريخ الفلسفة الحديث وعلاقته بمآلات العالم اليوم.
ولا أُريدُ ان أحصر هذا الأمر في حالة ماليزيا ولا في الجامعة الإسلامية العالمية، وأبقيه مفتوحاً لكل المؤسسات الاكاديمية في العالم الإسلامي وخارجه، لكن مساحة فكرة تأسيس الجامعة وتقاطر الشباب عليها من دول شتّى، قد يُساعدها على إنجاز هذه الرسالة، وخاصة حين تكون عبر شراكة مع أحد الجامعات الأوربية في إنجلترا أو أوروبا وأمريكا.
إنني أُدرك حجم النفقات والمسؤوليات التي تترتب على بعض المؤتمرات والأنشطة، إضافةً إلى مسؤولية الجامعة في مواصلة المنح الدراسية الخارجية، ولذلك أوجه دعوة للقادرين من رجال الأعمال العرب، للمساهمة في هذا الواجب الإسلامي الإنساني، الذي تغيب أهميته مع الأسف الشديد عن البذل الإحتسابي لمفهوم الوقفية العلمية، التي دعمت رحلة الفكر والعلوم في جامعات أوروبا وامريكا الشمالية.
ولقد ناديتُ في ختام المحاضرة في مكتبة الجامعة بأن تعلن الجامعة الإسلامية، عن تدشين مقعد رينيه غينون للفلسفة الأخلاقية، فهو الشخصية الأولى الجديرة بالاحترام ورد الاعتبار، حيث سبق بسبعة عقود، كل نُذر المراجعات الفلسفية الأخيرة، التي حذرت من مآلات العالم الحديث، ودعا مبكراً بروحه المسلمة والفرنسية الصادقة الموجّهة لقومه، للإصلاح الأخلاقي الفلسفي.