غازي القصيبي ومفهوم العروبي الآخر
مهنا الحبيل
12/7/2022
لا أعرف ما هو رقم كتاب حياة في الإدارة لغازي القصيبي رحمه الله، في قائمة القراءة العربية، لكني أعتقد انه من أفضل الكتب لفتح شهية القارئ العربي، وخاصةً مع حياته الاجتماعية المتفاعلة، وهو أبن أسرة ذات حضور مبكر في عالم النظام الاجتماعي المهم في الخليج العربي، وهو الفصل الذي تجاوزه غازي لسبب مرجح لدي لا مجال لعرضه اليوم، ولكن حياته الشخصية في ذاتها تجربة تحدٍ عميقة، ومدرسة كفاح شخصي مميزة وبالذات في قصة مفهومه للإدارة.
أي إدارة نقصد؟
إدارة المواقف أم إدارة العلاقات الشخصية، أم إدارة الذات بين غازي القصيبي المفكّر، أو المثقف المتفاعل قبل الوصول لنخبة الفكر، وبين الوزير ذو الإرث العروبي الذي قرر أن يخوض تجربة العطاء الوطني لصالح الشعب ولكنه ينضم لطواقم الحكم، ضمن قرار القوميين العرب السعوديين وغيرهم في الخليج العربي، بعد أن انعطف موقفهم الثوري.
وبين غازي الإنسان ذو الميول الأرستقراطية المهذبة، التي تؤهله جيداً ليكون الوزير المرافق، أو القصيبي البسيط في تطلعاته لطبقات الناس المنفتح عليهم، قبل أن تشرق الشمس بعد رحيله على آفاق صنائعه الكثيرة للمعروف وصدقاته، وهو إرث ظل باقياً في أسرته حيناً من الدهر ولا يزال.
يُجيب غازي عن طبيعة توجهه الفكري، في لقاء مع قناة لبنانية، خلال موقعه كسفير للسعودية في لندن بعد قصة الإعفاء المشهورة، والتي خلق منها غازي بذكائه وإدارته، واقعةً منشورة لم يعد هناك حرجٌ من ذكرها حتى في لقاءاته ونشاطه الثقافي العلني، والتي كانت بناء على اشتراطه لدعم تغييري مركزي لوضع المجال الصحي السعودي، تمكنه من الإصلاح الحقيقي.
يعود غازي إلى مرحلة نشاطه النضالي الثقافي ويُحدد بنفسه شقة الحرية، التي تثير هويته الأيدلوجية، هل هو من عصبة الحركة القومية العربية، وفروعها في الخليج العربي، أم مثقف أخذ بقلبه كما يقول القائد الأسطوري لوحدة العرب جمال عبد الناصر، لعل أبو يارا رحمه الله كان يرى أهمية الفصل بين الإطار التنظيمي لحركة القوميين العرب، وبين الاستقطاب الثقافي الواسع لمفهوم العروبة.
وهو فارق مهم في الحقيقة، لكنه لا يمثل ميزاناً شرطياً لأحقية التغيّر أو لنقل الاعتدال، بين الانتساب الحزبي في صفوف القوميين العرب أو اليسار القومي أو الحزبية الإسلامية او الكوادر الماركسية العربية، في المواسم المتعددة لهذه الأيدولوجيات، وبين تحولهم كوزراء تكنوقراط، لكنه تكنوقراط ( وطني) متحفز للإصلاح، ولذلك يصعب تحديد المسطرة هنا، خاصة ونحن نستحضر ذلك الجيل ومن أبرزهم، الوزير العروبي الشرس ضد الهيمنة الغربية عبد الله الطريقي رحمه الله.
ما يهمنا هنا هو فهم موقع القصيبي وغيره من المثقفين العرب، المتحولين للإصلاح الميداني برجاء تقديم ما يمكن من نهضة لأوطانهم، بعد رحلة الفكرة الثورية المبدئية أو النضالية، وقد أشار هنا إلى الانطباع الذي سيطر على القراء بعد روايته شقة الحرية، وأنه في نهاية الأمر كأي وزير في منظومة الحكم الشمولي المقابل للجمهوري الثوري، يحتاج إلى مقاربة مع الشرعية الرسمية للأنظمة الخليجية (الرعوية الأبوية).
ولقد أبحر غازي في سفينتها في محطات عديدة، وقدّم وخاصة في كتابه الوزير المرافق أدلة عملية (حسب اعتقاده) لحجم الفراغ الهائل في فضاء الممكن، والتفعيل العربي المصلحي لقضايا الأمة مقابل ما يسميه الإعلامي العربي الصديق د. فيصل القاسم، طقوس (الثورجيين العرب).
لا بد هنا أن نشير بأن غازي كان يقدم صورة العروبة والعروبي، في نموذج عقلاني رشيد ومهمة فنية إدارية، يدرك القارئ أنه كان ينقل صورة مختلفة، عن النموذج الذي تقدمه منصات الجمهوريات (الثورجية)، والتي عرض لواقعها وإرثها في كتابه الوزير المرافق، وخاصة من خلال المسرح الشيّق الذي عرض فصوله الممتعة، في تناوله مشهد القمم العربية الساخر أحياناً والكارثي أحياناً أخرى، والمتناقض كلياً مع مبادئ الوحدة العربية، التي يحمل كل منبر دعائي لها نموذجاً صراعياً مع الآخر.
فهل كانت الأنظمة الشمولية في الخليج العربي تمثل البعد الآخر للعروبة! لا يتبنى غازي القصيبي الدفاع عن هذه الواجهة، ولعله كان سيموت حسرة، لو لم يسبق إليه أذان الرفيق الأعلى في مرضه الأخير، لو رأى مسرح الإسرائيليين المشرّع بين أبواب المدن العربية والخليجية على الخصوص، حتى أن إعلانات الرحلات السياحية لتل ابيب تذاع رسمياً من بعض العواصم، وكأنما القدس باتت متحفاً للصهيونية المتطرفة، يتولى مطوفي إسرائيل الكبرى جر السياح العرب إليها عبر عربتهم، ويتم تعميدهم بالطاقية الصهيونية المعنوية التي لا تظهر فوق عُقلهم.
لكن غازي يرد بقوة وحتى اليوم على ذلك المسرح القديم الصاخب، الذي انتشر في ظلال الصراع القديم بين العروبي الآخر وبين العروبي (الثورجي)، الذي لا يزال يُعيّر البدوي أو الفلاح القادم من نواحي الجزيرة العربية أو ساحل الخليج العربي، بتبعيته للإمبريالية العالمية، وربطه بالضرورة بخدمة إسرائيل، رغم أن هذا المثقف أو ذلك المتبرع، أو الشيخ الديني سجّل أكبر العطاء الممكن لقضية فلسطين، وهي لغة تشير إلى عمق هذه الأزمة في صناعة الانقسام العربي.
ويظهر هنا بجلاء أن غازي كان يُصّر على واجباته العروبية والإسلامية للدفاع عن قصية فلسطين، دون التفات لتمظهرات وتنميطات المثقف (الثورجي) الذي يبرز اليوم مرةً في خدمة طائفية ايران أو الأسد في حربه على الشعب السوري، ومرة في قلب الخليج ذاته يشارك في تزيين العروش كلٌ وسيّده، ويطرح القصيبي مقابل ذلك، سيرة مختلفة للدفاع من مواقع رسمية ومن داخل البيت العربي الخليجي، تشمل مواقف رسمية أثر فيها حضور العروبي الآخر في باحة القصر أو خلفيته، تفكك شهادته قصصاً وتنفي أخرى روج لها المثقف الأيدلوجي ونحن نتحدث قبل المسرح الخليجي المخزي الأخير، فأي الروايتين صحيح؟