مهنا الحبيل
14/8/2022
على مدى أسبوعين أو أكثر من التركيز في قراءة مذكرات الرئيس المؤسس لسنغافورة الحديثة لي كوان يو، كنتُ التقط بألم تطابق بعض توصيفاته لأزمة شعب الملايو مع د. مهاتير محمد، ورغم أنني فرزت مواقف لي كوان وتحامله غير المبرر، وحللت رحلته وموقفه الشرس ضد الملايو، والذي أخفى فيها هدفه الخاص، لكنني شعرت بأسى بالغ أن بعض شهادته تمثل الحقيقة، وهي الحقيقة التي تلعب اليوم دوراً بارزاً في تراجع ماليزيا اليوم.
إذ أنه لا قوة عميقة للدولة دون حياة دستورية حرة وإرادة ومشاركة شعبية، وصلت لها ماليزيا بعد الاستقلال، ثم تراجعت مساحتها وهو ما يؤثر على منعتها وسلامتها، وخاصة أن نموذج الملكية الدستورية، ومواد التشريع التأسيسية لشعب الملايو للحفاظ على هويته وقوميته، تضمن بعون الله عدم اسقاط الأمة من الداخل، وهي الحقوق التي رددنا بها على رؤية لي كوان مؤسس سنغافورة، ليس رفضاً لإنجازاته وفكره المدني، ولكن لروح مشارطته بنزع الروح الإسلامية وجامعها القومي للمالايو.
ويحتج كوان بسرعة التأثر في شعب الملايو من التحريض، الذي تتعرض له بقية القوميات حين تثار لديهم نزعة الخوف على إسلامهم، وعلى حقهم القومي التاريخي وهذه دوافع مفهومة تماماً، لكن المشكلة هنا أنها قد تكون سلاحاً ذو حدين، حين تتجاوز ردة الفعل واجب الحماية القومي، وحين يغلب خطاب العاطفة على وعي العقل.
وفي زيارتي الجميلة الأخيرة في شهر يونيو حزيران الماضي، ولقائي بالأشقاء من نخب ماليزيا الدينية والثقافية، التقيت في آخر الرحلة بعدد من الشباب العرب، كانوا متألمين للغاية من الظواهر التي حصلت في ماليزيا خلال موسم جائحة كورونا، وهي في الحقيقة أخطاء خطيرة لا بد من مناقشتها في البرلمان، وفي المؤسسات الفكرية الإسلامية والسياسية والثقافية في ماليزيا، سواء كانت في امنو أو أبيم أو باس وكل التكتلات الفكرية في أبناء الملايو، وحتى النشطاء المستقلين.
لقد أطلقت الحكومة الماليزية خلال كورونا، خطاباً سلبياً تجاه غير المواطنين، فهو لم يكن عنصرية ضد شركائهم الصينيين والهنود من مواطني الدولة، ولكنه كان موجه للأجانب المسلمين وغير المسلمين، في قضية حق اللقاح وغيرها من أمور الجائحة، وأصعبها وهو ما يُكدّر خاطر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحبه والولاء له في قلب الأمة، هي خطيئة منع المسلمين من غير الماليزيين، من دخول بيوت الله زمن الجائحة، لمشاركة اخوتهم الملاويين صفوف الصلاة، بحجة ضبط الأعداد، وهذا الضبط قد يفهم لو كان ليس عزلاً عنصرياً، ولكن أن يرد الناس عن الدخول لبيوت الله لجنسياتهم فهو خطأٌ كبير.
إن حرصنا على ماليزيا ومحبتنا لها، وما تمثله من واجهة للمستقبل الإسلامي، لو يسر الله لها مواصلة درب النهضة وتصحيح المسار وتجاوز عوائق الفساد والمصالح الخاصة، هو ما يدفعنا لهذا التنبيه، فماذا يقول الناس في سنغافورة وغيرها، أمام ما حصل في ماليزيا تجاه الأجانب، ولا تعنيني حملات الصحف الغربية في هذا الموضوع، ولكن المهم هو أثر رسالة الإسلام وتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم، في الإحسان إلى الناس ومساواتهم.
ولذلك ادعو الاخوة لعقد حوار رسمي وشعبي وطني تناقش فيه هذه الأخطاء، ويُعتذر من المسلمين وغيرهم في قضية هذا الخطاب والإجراءات التي خُصّصت لغير الماليزيين، وهو ما يساعد في تحرير فكر الأمة ونهضتها.
ولعل هذا الحديث مدخل مهم لدعوةٍ أكبر تشمل شباب المنظمات التي ذكرتها، بأن تنطلق من جديد مهمات المسيرة النهضوية، وليعتبر الشباب الخلاف مع لي كوان هو ضمن مسيرة تحد، يجب أن يتوحدوا فيها لتحرير رحلة النهضة بعد نقد العوائق والأخطاء، وأن ثلاثية الإنقاذ لا تزال هي القوة الفارقة لمسيرة ماليزيا:
- هوية الملايو المرتبطة بالإسلام ليس من خلال الشعائر والعبادة فقط، ولكن من خلال المشروع الفكري الكبير للإنسانية والعدالة الاجتماعية، التي ولدت في الرسالة المحمدية ومن سار على هدي عدالتها من المسلمين، لا القوم الظالمين.
- نهضة الفرد بأخلاقه وتميزه، وهي حاضرة في روح الشباب والشعب ومودتهم للجميع، ولكن الشق الآخر منها الإيمان بمعادلة الإسلام (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف)، في الإنتاج والعطاء وليس فقط في الصلوات والأذكار.
- صناعة فكر مندفع حول مشاريع تعليمية وصناعية وزراعية وتقنية تكنلوجية، تنافس فيها سواعد الشباب أجيال المخضرمين، وخاصة بأن هذه الأرضية قد أسست من قبل في تحالف مهاتير – أنور إبراهيم.
حينها يبزغ فجر ماليزيا من جديد، وقوتها التي تحمي هويتها وحقوقها، فتفدم نموذجاً أخلاقياً راقياً بين الأمم.