الشيوعي الصغير في حياة فيصل القاسم

مهنا الحبيل

هنأت د. فيصل القاسم، على نجاح وحيوية حلقة أثير، وقلت ُ له لك قصة عندي مع مصطلحك الحركي (أبو محمد)، وكنت قبل فترة قد كتبت مؤخراً عن سباق جديد في عالم الخليج العربي، في فضاء البودكاست الذي يتوسع بصورة كبيرة، ويأخذُ مساحة متزايدة جيدة من الجمهور، نشر المقال في الوطن القطرية، خارج أي حساسية سياسية، وسبق أن سألت أحد الأصدقاء الأعزاء من المسؤولين عن الثقافة في قطر، يبدوا أن الرياض تتفوق اليوم من خلال بودكاست ثمانية، والذي حقق صدارة كبرى، بل جذب أبو مالح ورفاقه، عدداَ ضخماً من جمهور الوطن العربي، فهل لديكم مشروع مقابل في الدوحة؟

       نستحضر هنا أرقام حلقة المدرب والموجه السلوكي ياسر الحزيمي، التي نافست الأرقام العالمية، وليس حديثي عن تقييم شامل للمواد أو الضيوف، لكن رغم الدعم الرسمي الضخم، فإن تفوق ثمانية، بطاقم شباب سعودي يحتاج الى تأمل، بالطبع تعرضت ثمانية إلى انعطافة بعد ضمها الى الشركة السعودية الجديدة، والتي تخضع لتوجهات أ. عبد الرحمن الراشد، وتأثر ثمانية بأيدولوجيته وفريقه الخاص ذو النزعة اللبرالية العقائدية الصارمة، المناهضة للفكر الإسلامي، وقيم الشعوب العربية في الخليج.

       وهو ما قد يؤثر على هذا (النجاح) السعودي، وفي هذا التوقيت بالضبط، عادت الجزيرة بقوة الى المنافسة، فذكّرت حلقة د. فيصل القاسم بحلقة الحزيمي، فهل نحن في ماراثون، خدمت فيه الإدارة السعودية الجديدة العليا لفنجان، امبراطورية الجزيرة؟

في كل الأحوال نُشيد بقدرة الجزيرة على تحقيق نجاح نوعي في زمن قياسي، عبر كل أروقة أثير وتنوعها، والذي سيبقى بيت الخليج العربي فيها، يتيماً كالمعتاد، من حيث استدعاء قصة إنسانه ومبدعيه، خارج المشارطة الرسمية أو التصنيف الدوني، الذي ساد في كل مشاريع دول الخليج، لكن هذا كله لا يُغيّر من اقتحام الجزيرة القوي لعالم البودكاست.

       ولقد وقف المشاهد على أدب فيصل القاسم، وتحيته وذوقيات خطابه، وحتى مساحة الإعتذار الضمني، لبعض البلدان والشعوب كالكويت، وإن لم يقتنعوا بتبريراته بصورة كاملة، لكن أدب التعبير، ونزع سخينة غضب الناس، كانت رسالة مميزة من فيصل، جعلت الجميع يتابع بإكبار رحلة عذاباته وكفاحه، من طفلٍ يكدح يومه، إلى هجرة شرسة المعيشة، في سبيل تعليمه، حتى وصوله لصوت البي بي سي، هنا لندن، عرضها كعازف ماهر يعرف بالضبط، كيف ينتزع انتباه المشاهد ويُثبّت بوصلته عليه، وإن كان تدفقه عاطفياً، فهذا الكفاح الشخصي، جُهدٌ نفسي وبدني، ضخم وثقيل وصعب، وليس أروقة تنقل، يتقلب فيها أبناء الميسورين.

وقد كانت بعض البيئات في الخليج العربي، تتابع فيصل القاسم باهتمام بالغ، وبهمس بين المجالس والمكاتب، كانت الجزيرة تبث على قناة 37 في قطر، وكان البعض يتداول بعض حلقاتها، وخاصة فيصل القاسم، ثم بدأ اقتناء البث الفضائي، كان يجذبهم، فيتحدثون همساً، وقد وضعوا لفيصل القاسم اسماً حركياً، فيميل على صاحبه في طابور المدرسة أو المكتب، (سمعت شيقول بو محمد – فيصل القاسم) ثم يتلفت وهو ينتظر مواصلة رفيقه الحديث (ايه هذا خبيث) خشية من ترصد الطرقات له، وهو في غاية الاهتمام والتشوق.

وربما يعرف الجميع المثل السائد عندنا في الخليج، وسمعت مثيلاً له في عدة أوطان عربية، (الجدران لها آذان) يبدوا أن فيصل القاسم، اخترقها فأصبح علامة في قصة هذا الزمان، وقد كان للفكر الشيوعي دوراً في هدم مسلمات الرأسمالية، وكان اليسار القومي، من ضحايا هدم المرويات المثبتة في وجدان الناس، في جدران الرعب والصمت، وكان للبعث الذي أحدثه هذا الكفاح اليساري، خاصة في قصة الجوع والغنى، والطبقات التي صنعتها البرجوازية العربية، أثره وإلهامه.

لم تكن الحكاية كلها تبشيراً بالماركسية العلمية، أي الإلحاد، وإن كانت، فريضة أيدلوجية تبناها الرفاق الحمر، منذ البيان الشيوعي الأول، وأقاموا في سبيلها نُصباً لمجازر كبرى، نالت من علماء الدين والبروليتاريا، كما نالت من رفاقهم، ولكن هناك شرفاء ومناضلين في سبيل شعوبهم، حرصوا على أن تُحرّر إرادة الناس، كما أن بعض الأنظمة استخدمت الفتوى الدينية وحجاب المشايخ، لوأد آمال الشعوب وقمع حقوقهم.

أعلن فيصل في هذه الحلقة علاقته بهذا الوجدان، وكنتُ أعجبُ من غضبه أحياناً في بعض برنامجه، وكأنه صاحب ثأر شخصي، وقد برر ذالك بالفعل، بانحيازه لطبقة المحرومين، ولكن القصة الأخرى للفكرة الشيوعية، انها وَلّدت دكتاتورية أخرى، ففرغّت حِنق المثقف، على ضمير الشعوب الإسلامية، ثم أدارت اللعبة بينهما، ومن يتأمل في مواسم السياسة في الوطن العربي، سيجد محطات لما يشبه السرك، اقامته الأنظمة الجمهورية، بين الشيوعيين والإسلاميين، وبمجهر أكبر بين العلمانيين والإسلاميين، عند الأنظمة الملكية كذلك.

في ثورة المشاعر في وجدان فيصل القاسم، تظهر لك تلك الروح، ونحن يهمنا أن يكون فيصل القاسم، في صف الجماهير، وأن يخترق سقف السياسة لأجل الحقيقة لهم، كما يهمنا جانب آخر من الحكاية، وهي علاقة الطبقات بالجماعة والطائفة، والتي لعب عليها النظام الإرهابي في دمشق، فحاول استقطاب عرب سوريا الدروز الموحدين، إلى حديقته الخلفية في الطائفة العلوية، وكان فيصل القاسم أحد واجهات الرفض لهذا التجيير، ولذلك نفهم منه بوضوح لماذا يُحيّي ساحة الكرامة، التي ساهم في تأسيسها، بسوط صوته، وبمكانة منبره.

ويهمنا عربياً بأن يُخلق في فيصل القاسم، قيادياً فكرياً نرى فيه عروبة سلطان الأطرش، وكمال جنبلاط، وقد خلقت رحلته البريطانية الأكاديمية فيه، روحاً نضالية الثقافة بناء على تخصصه الذي سيق له، ولعلنا نشيد بهذه الروح، في ذات الوقت نقول للمبدع فيصل القاسم، لا تُدخل الشيوعي الصغير، في لعبة السيرك العربي الكبير، الذي يهمه الكرسي لا لقمة وحقوق الشعب، فمعركة الدين محرقة، وأنت حكم في هذه القاعدة.