لماذا انتصرت حضارة ماليزيا وانتكست حضارة الهند؟

مهنا الحبيل

14/6/2022

صادف زيارتي لماليزيا الإجازة السنوية العامة لمراحل التعليم، والتي أتت بعد نهاية زمن الجائحة وظروفها الصعبة، والتي تأثرت بصورة مباشرة بقربها من انتشار الفيروس وتفجره بين الناس في الصين، كانت المنتجعات مزدحمة بالسائحين من الشعب في حين كان السياح الأجانب قلة بينهم، ولذلك كانت فرصة لي للتأمل في هذه الكثافة السكانية من أعراق وقوميات ماليزيا، وعلاقتها الطبيعية المنسجمة في الحياة المدنية العامة، وليس في القوانين الدستورية فقط،، دون أن يُلغي ذلك وجود التكتلات السياسية الحزبية، الممثلة بصورة أوسع لقومية ماليزيا الكبرى أو لأقلياتها الصينية والهندية التي يدين غالبيتها بالهندوسية.

وحين نقول القومية الكبرى لأرخبيل المالايو، فهذا يعني أنها رحلة الشعب القديمة الضاربة في التاريخ في هذه الأرض، والتي ظلت محل استهداف مركزي من التوحش الكولونيالي الغربي، قاومتُه زمناً طويلاً، وعزّز قوة كفاحها معنوياً واخلاقياً دخول شعب الملايو للإسلام طوعاً وإعجاباً، حين وصلت سفينة جدة التي حملت التجار الحضارمة قبل قرون، فاستبشر الملاويون القدماء بأخلاقهم وصدقهم وأمانتهم، فاستمع سلطان ملكا إلى الشيخ عبد العزيز والرهط الحضرمي اليمني، فاستأنس بحديثه وكان قرار اسلامه قصة الميلاد الجديد للأمة الملاوية وإنسانها الحضاري.

هكذا عكس المتحف الوطني في كوالالمبور رحلة الإسلام في ماليزيا، حيث كان هذا الحدث الأبرز وإن كان الإسلام قد وصل لجزر الأرخبيل قبل هذه الرحلة، أما في رحلتي السياحية فقد كان ازدحام أطفال الأُسر الملاوية المسلمة والأسر الصينية والهندية الماليزية، يملأ أصداء المنتجع الذي أُسّس من عقود في جزيرة بياننج، وأُسمي الحي فيها بالهند الصغيرة ( LITTLE INDIA ) يتشارك في المنتجع كما في حياة الشارع مواطني الأقليات ومواطني القومية الكبرى، تحت دستور التعدد والحياة المدنية، التي يقرنها الملاويون ويتمسكون فيها بكل توجهاتهم، حتى الحركة الوطنية العلمانية بالإسلام.

يُمثّل الإسلام في ماليزيا الجوهر الروحي، والانتماء الوطني العميق، ومن الصعب أن تجد اختلافاً في الحياة الاجتماعية بين التيار الإسلامي، وبين التيار الوطني لشعب الملايو، بل إن الحركة الوطنية (أمنو) التي ورثت كفاح التحرير السياسي منذ تنكو عبد الرحمن والعهد التأسيسي للملكية الدستورية، هي بذاتها لها جناح وأنشطة إسلامية واسعة، فضلاً عن الحزب الإسلامي (إخوان ماليزيا)، وحركة أبيم الشبابية الممثلة لتيار (النهضة) الماليزي، الذي انطلق بكل قوته في قصة التحالف القديم بين مهاتير و أنور إبراهيم، والتي شكلت صخرة التحول النهضوي والصمود للبعث الوطني الماليزي، المقترن بروح الإسلام التعبدي والفكري.

ومنذ أن ورثت الحركة الوطنية وجهادها بشقيها العلمائي والثقافي، ودور سلاطين المقاومة مرحلة الاستقلال، حيث كانوا القوة التي شكلت صخرة الكفاح والصمود الإنساني، أمام بغي التقدم الغربي الإبادي، برزت قضية التعدد القومي، حيث اشترط الاحتلال الإنجليزي منح الجنسية الوطنية للمستقدمين من القوميات المختلفة إلى الأرخبيل، مع التأكيد على أن بعض هذه القوميات لهم جذور تواجد تاريخية مشتركة مع إخوانهم المالايو.

قبلت الحركة الوطنية حينها بعد جدال صعب، كونها تُثّمل أمة التضحية والاستقلال هذا الشرط، وبدأت رحلة المواطنة المتعددة والدولة المدنية المسلمة المتعايشة مع اقلياتها.

حصلت بعض المصادمات، بين الدولة الوليدة وحركة احتجاجات من الأقليات، لكنها استُوعبت في التنافس السياسي الوطني، مع بقاء هذا المشترك والقلق لدى أمة الملايو من تأثير بكين والهند كدولتين على النسيج الاجتماعي، ومخاوف اسقاط الخصوصية القومية للدولة وعلاقتها بالإسلام، في المواد الدستورية والقرار البرلماني وصلاحيات السلطان لحماية الأمة، ولكن الدولة اليوم تعيش هذا الانسجام وتركز في كل تعريفاتها، وفي المساحة الضخمة لكل أقلية على حقوق هذا التعدد، رغم المرجعية التاريخية للملايو، والذين يرابطون على حماية وطنهم وحضارتهم بالمفهوم الإسلامي ذاته للتعايش.

وهذا يعني أن أي مساحة تذمر أو خلاف بين الأحزاب الصينية والهندية الماليزية، مع القوى الوطنية والإسلامية للمالايو، لا يُمثل مساحة كبيرة في مقابل التمسك بالتعايش الوطني والحياة المدنية الدستورية للجميع، هنا برزت بقوة سلوكيات ومنهجيات سياسية راديكالية متطرفة، في الصين في قضية الأيغور المسلمين وغيرهم، لا مجال لمجرد مقارنتها مع حقوق الصينيين الماليزيين، وهي قصة يطول شرحها.

أما الهند فإن الدولة اليمينة الجديدة، تشن حرباً رسمية متوحشة على مواطنيها، يُسعّر فيها الخطاب عبر (البورد) المباشر للصف القيادي والاستشاري لحزب بهاراتيا جاناتا المتطرف الحاكم، فضلاً عن تصعيد رئيس الحكومة الهندية ذاته، والذي يقود بنفسه عملية التحريض على مواطنيه المسلمين الهنود، ويتحدث خطابه مبرراً لخطط تصفيتهم السياسية، فيما يتولى المستشارون مهاجمة الإسلام ورفض حق التدين لمواطنيهم، ومحاصرتهم إعلامياً، وهدم مساجدهم ومنع حجاب المرأة المسلمة في المؤسسات أو التضييق عليها.

ولعلنا هنا نرصد الأهمية البالغة لدفاع المجموعات القومية للتطرف الهندوسي، عن عقيدة اليمين الغربي العنصري وحملاته وجرائمه ضد المسلمين، رغم أنهُ يشمل المهاجرين من غير المسلمين، لكن هذا التأييد البهيمي المتوحش، يعيشُ حالة عُميٍ معرفي وحضاري أبله، لم يدرك أن المهاتما غاندي قد واجه ثقافة التقدم الغربي وإبادتها للمسلمين والهندوس وغيرهم، وأن الاتكاء على الكولونيالية في صراع أمم الشرق هو انتحار وتخلف، ولذلك تفتح الهند اليمينية اليوم أبواب الجحيم، وتعلن فشلها في مواصلة مهمة غاندي الأخلاقية، وحين يُطلب منها المرجع الإنساني، تطرح عقائد خارجة كلياً عن الوعي العقلي والتوازن العلمي، لتبرر به اقتلاع الإسلام والمسلمين من الهند.

إن الصورة الواضحة اليوم بين المشهدين في ماليزيا وفي الهند، ترشدنا إلى فهم الفارق القيمي الذي يتبناه المشروع الماليزي لأبناء أمته، وهي مرجعية الإسلام الأخلاقية الحضارية لتعامل الملايو المسلمين مع اخوتهم ومواطنيهم من الهندوس ومن البوذيين الصينيين، ليعود سؤال المقال أيهما أقوى ركيزة في النفس الإنسانية للتعايش، اليمينية العنصرية في الشرق والغرب أم القيم الإسلامية؟