ضد الديمقراطية

مهنا الحبيل

في الباب الثاني من العقد الاجتماعي، يواصل روسو ترصيف الأرضية الفلسفية، المبررة لبنود العقد الاجتماعي، من حيث إلزاميته على الناس كافة، يطرح روسو أرضية لهذا المدار، وهي أن الإرادة العامة، المُمثِلة لكل سكان الدولة، وخاصة في النمط الجمهوري، تفرض سيادتها من حيث إنها تقوم على المشترك المصلحي المطلق، أي مصالح كل أعضاء الجماعة الوطنية وهم الشعب بكل شرائحه، وعلى الأقل في حالة فرنسا، فإن هذا الميزان ليس محل إجماع، والتغول من هيئة السيادة التنفيذية، وهي رئاسة الدولة والحكومة، لا تحظى بهذه النزاهة.

       ليس لشرائح الشعب المتعدد القوميات، من مستعمرات فرنسا السابقة، ولكن حتى من الشرائح الرئيسية، أي ذات الأصول الغربية الاجتماعية، نسجل هذه النقطة بحكم أن هيئة الحكم، التي يراها روسو وشرّع لقيامها، تحت سيادة الإرادة العامة، قد تمارس دوراً قهرياً، ليس من خلال تمثيلها المصالح المشتركة للجميع، كمبادئ راسخة، ولكن عبر التفويض الانتخابي، حتى لو كان يَعبر من خلال فارق أصوات ضئيل.

 واستدعاؤنا لهذا الأمر، بسبب أن فرنسا الوريث الأبرز للعقد الاجتماعي، تحتج بالنظام الجمهوري، في قمع السترات الصُفر والأقليات، وتتحول الحكومة فيها، إلى مركز السيادة، وهذا يُخالف فلسفة روسو، فالسيادة المطلقة، يجب أن تعود للشعب.

       إن هذا المآل يقودنا لإشكالية النفع العام والمصلحة الجماعية، التي أسس عليها روسو فصل الإرادة الخاصة عن الإرادة العامة، فالإرادة الخاصة الممثلة للفرد سوف تتنوع وقد تتصادم، بينما الإرادة العامة، تجمع ما توافق عليه أعضاء الجماعة الوطنية، وهي مع توازنها من حيث أن القانون العام يُحدّد الإطار المشترك للمصلحة، ويفصل في الخلاف.

       لكن مرجعية هذه المصلحة، تعود للتصادم في قاعدة السيادة الكبرى، وهو اجماع الشعب المتعذر، وبديله هو الغالبية الساحقة، نقطة الفراغ هذه تبرز في مراجعة الواقع السياسي الغربي، بعد أكثر من قرنين على العقد الاجتماعي، وفي حين تتأكد فرضية المصلحة العامة، وكل مساحة تحققها الديمقراطية المقترحة من روسو، فإن جانبها الآخر، هو كتلة المرجعية الصلبة لتقدير هذه المصلحة، وفارقها في المصدر الإسلامي الحقيقي لا المزور الموروث من المستبد القديم، والمستبد الجديد، وهي عودة الهيئة الممثلة للسيادة، الى مصدر تحديد لمصالح الخلق، عبر الوحي والتشريع الذي يتجاوز الأطماع أو الحقوق الفردية، هذا هو الفارق الإسلامي.

       لكنه فارق أخلاقي حين يتجلى فيه، أركان الحكم والتمثيل البرلماني بالورع والنزاهة، وليس من خلال فرض شهواتهم وظلمهم باسم الحق الإلهي، فهنا تكون الإرادة العامة مؤيدة، بمفاهيم كبرى للمصالح، تراقب فيها ممثلي السيادة المفوضين.

       ولكن روسو ينتقد بشدة أي مفهوم لتقسيم السيادة، وهو هنا يرى انها منحصرة في الإرادة العامة، أي التفويض الشامل، ويُعارض أن تتوزع صلاحياتها بين السلطة التنفيذية والسلطة الاشتراعية (البرلمان) ويسخر من ذلك، ويراه جسراً (لسياسيينا) كما يصفهم لإخضاع السيادة لأغراضهم، ويضرب مثلاً بالمشعوذات القديمة المنقولة عن اليابان، بأنهم يقطعون الطفل أجزاء ثم يرمونه في الهواء، فينزل حياً، فيرفض هذه الأطر الديمقراطية الهشة.

       يضع روسو هذه المعارضة الشديدة، تحت فصل (امتناع اقتسام السيادة)، وهو ما يعني انه يعارض في فلسفته تطبيقات العهود الغربية للمفهوم الديمقراطي (الحالية)، ويهوي روسو على غروسيوس الفيلسوف، في تجريد حقوق الشعوب، في كتابه الذي قدمه في التعاقد الاجتماعي إلى لويس الثالث عشر، ويتهمه روسو بأن ذلك كان مدخلاً له، ليتحصل على مكانة مميزة عند الملك، لأنه كان غاضبا من موطنه الأصلي.

       هنا روسو يطرح سياقاً مهماً، في التحقيق التاريخي لمدونات العقد الاجتماعي الأولى، وظروف صدورها، ويتعامل بحساسية بالغة، وهي غير مستغربة عليه، كما رأينا في مواقفه الرافض، لأي تسامح لتغول السلطة على حقوق الشعب، من خلال توزيع السيادة.

 ولكنها لا تزال في هذا الموضع، الذي يحاول فيه روسو نقل التعاقد الاجتماعي إلى مستوى أعلى وأكثر شفافية، محاطة بفراغ ضخم، لم يُعالج حتى بعد تطور الحياة السياسية في الغرب، ولم تعزل قوة النفوذ عبر الأحزاب السياسية واقتصادها، عن مساحة الحرية لقرار الشعب، وأين تكمن مرجعية السلطة العليا لكليهما.

       ولذلك قرر روسو أن الإرادة العامة، ممثلة للخيرية المطلقة، لكن ممثليها لن يكونوا كذلك، أي المفوضين من الشعب بانتخابهم، ويستدل على ذلك بأن تحول الأعضاء الممثلين، إلى كتل سياسية صغيرة يفتت هذه الإرادة، ولذلك فهو يرى أنه لو كان هناك مساحة لخيمة تشاور كبرى تمثل هذه الإرادة دون تمثيل انتخابي (ديمقراطي)، كأعضاء ينتمون لجماعاتهم الصغيرة، فهي أولى من قبة البرلمان.

 وهذا سياق مهم يُحرر فيه روسو مبكراً، أن السلطة الاشتراعية لن تحقق بالضرورة مَنَعَة الشعب وحقوقه، وضمان حماية الإرادة العامة، الشاملة لكل الشعب.

       بل دعا إلى أن تُفتح المساحة ليعطي كل مواطن رأيه، إن قُدر على ذلك، فهي الأولى لضمان عدم انقسام كتلة المشرعين، مستدلاً بمشرّع اسبارطة ليكرغوس (ليكورغ)، وما يعنينا هنا أن التحريرات القديمة، في سبيل تحقيق ضمان السيادة، للقاعدة العامة للشعب، كأساس يقوم عليه التعاقد الاجتماعي ومن ثم مداولة السلطة، يعتريها اضطرابات عديدة، في ضمان نزاهة القوة الاشتراعية، امام مصالحها المتفرقة، أو نزواتها.

 وهي أسئلة مهم جداً أن تُستدعى اليوم، في فشل أطر ديمقراطية عديدة، انقلب فيها صراع الأجزاء في قاعدة الإرادة العامة، إلى مدخل للفساد وللصراعات، وللانقسام، وحديث روسو هنا جاء في إطار البحث الأول، لضمان حماية الحقوق لصاحب السيادة المفترضة، وهو الشعب، وهو استباق مبكر يُحسب له.

 لكنه يعيدنا إلى السؤال الكبير، ما هو البديل عن التمثيل الاشتراعي، وهل نحن أمام حالة فشل كامل لمقدمات الديمقراطية أو مؤسِسَاتها، أم أننا نحتاج إلى ضمان الحقوقية المطلقة، بوسائط لا تقف عند عجل الديمقراطية، ولا صنم المستبدين وخوار أنصارهم.