مهنا الحبيل

1/10/2023

كثيراً ما تأملت في المقولة المشهورة وهي ليست بحديث: الطريق إلى الله بعدد أنفاس خلقه. ولتحرير هذا المعنى الذي قد يُشكل على البعض، هو أن كليات الشريعة الإسلامية وقطعياتها الكبرى، تحوي مسارات متعددة من حاجة الإنسان لرحلته بين الأحكام، وبين مركزية الأخلاق، وبين سؤال أين تجد الروح المطمئنة مسلكها، الذي يَروي إيمانها، ومنهجها الذي يضبط طريقها في هذه الحياة، ويحملها على كل خير ممكن، في عبادة الفرد لله تعالى وفي إصلاح شؤون دنياه، وتحويلها لسبيل الرشاد.

       هذا على المستوى الفردي، أما المدار المنهجي أي تحول هذا الطريق إلى مدرسة رأي أو فكر، فهو محكوم أيضاً بهذه الكليات والقطعيات، ولكون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم خاتمة لهذا العالم، مجددة لدعوة النبوّات مستكملة لفقه الإنسان في هذا الكوكب، مبدعة للرؤية الكونية لكل حياة معاصرة تستجد، في ظل شعوب واسعة وقبائل لا تعد، وأطباع وأحوال متفرقة بين أهل الأرض، فكيف يسعى كل منهم، إلى تحقيق رسالة مولاه والقرب من هديه والركون إليه؟

       فهو هنا منهج تدليل وتفصيل لفلسفة الشارع الحكيم، لا يُقصد منها أن الدين مساحة هُلامية مشاعة تُفسّر على الأهواء، ولا آراء الحمقى، ولا المؤدلجين أو المسيّسين في صناعة مذاهب تخدم مصالحهم، ولا حتى مفكرين تُشرِّعُ لهم نزاواتهم أو مذاهبهم الذاتية، فيُخلق من الإسلام كيانات متعددة، وأديان مختلفة لجماعات شتى، فهذا محض خلل وضلال حقيقي، حين تُسقط قواعد الوحي والبلاغ الكبرى.

       غير أن هذا التشريع بذاته في حالة الإنسان له مسارات متعددة، لملأ روحه أو يقينه العبادي أو تفقهه الأخلاقي، فهو ينظر أين تطمئن راحلته لأنواع هذا الخطاب، أكان وعظياً أو تربوياً، أو فقهياً أو فكرياً أو فلسفياً، ففي بعض الأحيان لا يجذبه إلا هذا المسار في غالبية شأنه، واستجابته الوجدانية والعقلية، وفي أحيان أخرى يحتاج إلى جرعات توازن، بعضها يُجيب العقل وبعضها يسقي الروح، وبعضها ينور النفس بتاريخ التشريع وسيرة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.

       وأحياناً تجد في بعض المنابر من يكون له سهماً في كل هذه المسارات، وأحسب أن الشيخ سعيد الكملي أحدهم، وليس الأمر بالضرورة أن يكون مرجعاً في كل مسار، ولا أن يحوي كل مساحاته المحتاجة في جدل الفكر الإسلامي الصعب، والمتعدد في عالم اليوم، ولكن له فيه دراية خاصة، فضلاً عن تمكنه في تخصصه من البيان القرآني في مجال الأحكام، والمصادر الحديثية والتشريعية الأخرى، وقوة لغته وموسوعيته الأدبية، مع كاريزمية جذب خاصة للجمهور العربي، وليس المغربي فقط.

       وبيان حجم حضوره وتأثيره اليوم في المشهد العربي المصور، من المحيط إلى الخليج العربي يطول، بل إن منبره يصل إلى إخواننا المسلمين الأعاجم في المشرق، ورغم نزعة الشيخ الكملي السلفية، مع جذور انتمائه الراسخة لمدرسة الإمام مالك، كونها البوابة الإسلامية الكبرى للمغرب الكبير، إلا أن روح الشيخ الكملي المعتدلة ومنهجه الحذر وعفة لسانه، وتجنبه الطعن في المذاهب والجماعات والعلماء، عزز جسور الشيخ الإسلامية.

 لا مع مسلمي المشرق فقط، وهو أستاذ كرسي موطأ الإمام مالك، بل لكل المسلمين، وهذا هو واجب العالم، أن لا يكون المذهب والاتجاه جزيرة معزولة عن الجزر الأخرى، تتصارع معها على الأقوال والآراء، ولكن روحاً مدرسيةً جامعة، تُلهم طالب العلم والباحث الفكري معاً، لذلك المعنى العميق للتعددية الضخمة في الفكر والفقه الإسلامي وهو يردد:

وكلهم من رسول الله ملتمسٌ – غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم .

       ونحن اليوم نرصد أيضاً ظاهرة اعتدال وامتزاج بهموم الأمة الفكرية، لدى شخصيات سلفية في الشام وفي العراق واليمن وفي الخليج العربي، تساهم في جدل المشروع الإسلامي الفلسفي والنهضوي والأخلاقي، الذي يتصدى له دعاة النهضة الإحيائية، وهذه الشراكة قديمة وليست جديدة، وهي من معاني توحيد جهود الأمّة ومدارسها، وهي لوحة أمل في ظل صورة سلبية أخرى، يستدعي فيها البعض صراعات المذاهب المخزية، من تاريخ الانحطاط المروع في أمتنا، الذي خلقه الفقه المتعصب، أو زجّت به ألعاب السياسة.

       وكون أن جزء حيوياً مهماً من فقه الإحياء النهضوي التشريعي، ليس ضمن خطاب الشيخ الكملي، فهذا لا يُنقص قدره ولا يشكك في مجهوداته الضخمة، ويُطرح هنا سؤالٌ كبير في حق الكملي وغيره من العلماء، غير المعتنين بفقه الحقوق السياسية ولا العدالة الاجتماعية، وتجنبهم الدخول في أي مدافعة لصالح الناس في هذا المسار فما هو الرأي في موقفهم هذا؟

نجيب بعون الله مستقبلاً