في نقد نماذج مالك بن نبي
مهنا الحبيل
استرسل مالك بن نبي في نقد نماذج من العلماء، بحجة أنهم يمثلون المدرسة الزيتونية والأزهرية العاجزة، والتي يَعتبر مالك بن نبي أنها ضمن وسائط الحصار للعقل المسلم المعاصر، فهي جزء من المشكلة وليس الحل، وهو بحث يحتاج إلى تفصيل، فمالك وبحسب عرضه لتاريخ رؤيته في الحياة الدينية الجزائرية والمشرقية الأخرى، وربما أكثر تخصيصاً الأفريقية منها.
وجد أن إرث المدارس الصوفية والمشيخية التقليدية، كانت وسائط فعالة لأدوات القابلية للاستعمار، وفي ذات الوقت هي تعيق القوة المعرفية الإسلامية، من المضي بروح مؤمنة تدرك أدوات الزمن المعاصر، التي تُبشّر بالفكرة الإسلامية المعرفية الثورية، وتندفع في مقدمة نهضة الشرق.
وهذا حديث مهم للغاية، فحين نضع هذا السؤال في باب دور العجز في الفكر الديني، عن القيام بمفاهيم القرآن، وخاصة كظاهرة يؤسس عليها عالم مختلف، في التنمية والاستقلال عن القوة (الغربية)، التي أعلن فوكو انها انسحبت على عالم الأفكار، فأخضعته لسلطتها لا للقناعة بمفاهيمها، فإن تقييمنا لغضب مالك بن نبي يفهم، عبر أزمة الفقه التراثي والفرق بينه وفقه الشريعة، وقد حررناه في مواد سابقاً.
وحددنا أين وكيف ومتى تمكن الانحراف التشريعي في تاريخ المسلمين، وكيف أن أبواب التخلف والعجز، بدأت عبر الاستبداد السياسي، الذي ورّث في تدوين السياسة الشرعية، خللاً كبيراً وعطل النهوض المدني العدلي والاجتماعي، الذي تقوم رؤاه على قطعيات القرآن، والسُنّة النبوية.
ولذلك فلا بد هنا من فهم التبرير الموضوعي، لغضب مالك بن نبي، حين وجد أن أبرز المدارس الشرعية في المغرب العربي وفي مصر، التي ترمز للإرث التقليدي للعلوم الشرعية، هما في الزيتونة وفي الأزهر، فكرر هجومه عليهما، وتعميم مالك خطأٌ كبير، حتى لو كانت الشخصيات التي واجهته منتمية لتلك المدرستين، فالأزهر نفسه والزيتونة، خرج منهما عقولاً إسلامية شرعية، خرقت جدار العزلة والحصار عن الفقه التشريعي المقاصدي، الذي غُيب عن الأمة.
كما أن التشريع الإسلامي بذاته، له أبواب متعددة، لا يمكن أن نحصرها في منهج مالك بن نبي، أو الفضاء السياسي العام للجزائر، وإن كان غضب مالك بن نبي على دور تلك المجاميع أو الشخصيات الدينية، حين يوظفها الاستعمار في فرنسا وغيره مبرر.
ولذلك نفهم غضب مالك بن نبي من مفهوم التصوف، الذي كان حاضراً بزواياه في المغرب الكبير، وأن قوة البأس الفرنسي كانت تتكئ على بعض تلك المشيخات، في نفوذها وفي تمكينها من الشعب سياسياً، وهي تقتله وتحصد أطفاله، لكن هذا الباب ليس على اطلاقه، فالروح الصوفية الإسلامية، هي أيضاً كانت محركاً للمقاومة في بلدان عديدة من العالم الجنوبي، بل إن الأمير عبد القادر الجزائري، سيد المقاومة الأول في الجزائر، والمشيخة السنوسية في ليبيا التي انطلق عمر المختار تحت رايتها، وكلفته بالجهاد المسلح هي من هذه المدارس الصوفية.
كل ذلك لا يُلغي فهم غضب مالك بني نبي الآخر، فتقويض العقل الإسلامي، وهو العنوان المهم، الذي ورد في مقدمة العلامة محمود شاكر، للظاهرة القرآنية لمالك بن نبي، وهو التقويض الذي عانى منه بن نبي، وكان يرى أن للتصوف دوراً مركزيا فيه، عبر تمكين الخرافة بين الشعب، لكونه أحد الأبواب التي استخدم فيها تغييب العقل الإسلامي، ومنعه من صوغ أطر الحياة المؤمنة في الفقه العمراني المدني.
إن المؤسف بحق هو أن هذا الاندفاع والغضب من مالك بن نبي، كان بسبب ما عايشه من توافق مواقف بعض العلماء، مع حصاره من المشروع الفرنسي العميق، الذي يشرف عليه المكتب الثاني، لقمع العقل الإسلامي المتمرد على كليات الغرب المركزية، التي كانت تتقدم بلدوزراتها الاستشراقية، للهدم والإبادة في عالم المسلم المعاصر.
هنا وجد مالك بن نبي أن موقف بعض العلماء اللذين عايشهم، ورفضهم لمراجعاته الفكرية لإنقاذ العقل المسلم، أدوات محبطة لأفكار النهضة، وهي تدعم اغتيال الفكرة التحررية الفلسفية الأخرى، فتخدم هذا الطوق الاستعماري المتوحش، ليس بالضرورة من خلال تواطئ أولئك العلماء، حتى من قسى عليهم مالك رحمه الله، فبعض غضبه وتسفيهه لهم غير مبرر في جدلية الفكر، حتى لو كان متفهماً، لألمه النفسي الصعب، ونجاح معسكر فرنسا في خنقه.
وهذا هنا المدخل المهم حين قدم مالك بن نبي (المشروع الوهابي) كبديل لهذه المدارس الشرعية، أو المنهجية الفكرية المستقاة منها، فهل كان ذلك يتفق مع منظومة فكره وهندسة فلسفته، أم كان زفرة غضب نفسية تبحث عن شعلة أمل في أقصى المشرق العربي، وحيث كان وحي الرسالة يتنزّل، فهل كان مالك سيجد ما رجاه لوحي الرسالة، لو عرف المشروع وقصته؟