مهنا الحبيل

7/3/2023

هناك بعض القراءات المسيحية المهمة في لبنان اليوم، تحاول أن تراجع موقف المسيحية الوطنية والذي يندرج تحت واقع الطائفة ومستقبلها، وقلنا الطائفة والوطنية لأن هناك مصطلح آخر في الاتجاه المعاكس، فلبنان وإن كانت لعبة الكراسي بين الطوائف احد أسباب محنته، غير ان استقلاله ولد بحضورها، وساهم الانحطاط العثماني ودوره التاريخي في مأزق العلاقات، واستدعاء الدول الاستعمارية وبالذات باريس، في فرض هذه المعادلة، وعليه فإن العودة لجذور أزمة المواطنة الاجتماعية الموحدة، يكاد يغيب اليوم.

       وكان التفكير الذي يشغل القوى الوطنية قديماً، هو القدرة على تحويل نظام الطوائف إلى معادلة وطنية، تَخلُق من توازن القلق والتوتر المذهبي، قاعدة سلم أهلي تتوافق عليها هذه القوى، التي لا يمكن أن تُستدعي اليوم ذات الموازين أو التقسيمات التي سبقت الحرب الأهلية، أو تزامنت معها، وخاصة بأن الانقسام في حينها، كان بحضور الطرف الفلسطيني الذي حيّد بعدها.

       وهو جدلٌ عاصف كان ضحيته المخيمات الفلسطينية، واستثمر في مساحة الضغط الموسمي على لبنان، وفي حين كان هناك موقف تناقض مفترض، بين التيار العوني وحزب الله الممثل للمشروع الإيراني، من المقاومة الفلسطينية، فإن هذا التناقض لم يمنع الصفقة السياسية الاجتماعية بينهما، بسبب أن مجمل الصراع الإيراني مع تل أبيب، كان ولا يزال يخضع لمواسم الضغط النسبية، ولم يكن المشروع الإيراني، وظلهُ الضخم في دمشق، صراعاً وجودياً مطلقاً لأجل فلسطين.

        فتفرقت القوى وضاع الموقف الوطني بناء على هذا السوق، الذي كان طرفه الآخر النظام الرسمي العربي وخاصة بعض أطراف الخليج، فأُسقط الميدان الوطني الذي كان يحتاج بالضرورة، إلى أرضية متماسكة ينظم بها لبنانَ الجمهورية الثالثة ذاته، وينقل شعبه من توازن الطوائف إلى مواطنة الحقوق والمصالحة الاجتماعية، ويحافظ بل يعزز موقفه المستقل خارج الإرادة الصهيونية، دون أن يُخضع أرضه لمواسم ابتزاز الإيرانيين، وهو ما وقع خلافه.

       ولم يكن لميلاد ذلك الميدان الوطني أن يتحقق دون مسطرة زعماء، يسبقها منصات خطاب فكري وثقافي وطني، يُقرّب المسافات، وما أنجزه الرئيس رفيق الحريري حقق استقراراً اجتماعياً اقتصادياً، ساعد البلد في منظومة المعيشة والعائد السياحي، ولكنه كان يفتقد لقوة الخطاب الأيدلوجي الوطني المقابل للكتلة الطائفية المتمكنة، التي كانت تفجرها إيران دورياً، فلا شخصيته ولا محاولات نجله سعد لاستئناف مهمته، استطاعت أن تغيّر قواعد الهيمنة الإيرانية.

       فالكتلة الوطنية المقابلة لجزر التأجير الطائفية من باريس أو طهران، والسوق العربي، كانت تفتقد لروح كفاح ونضال، تحدد مسلماتها، وتخرج من بوصلة الصراع الوظيفي، ولا يمكن عزل هذه القوة الفكرية عن تاريخ لبنان، حيثُ يمثل سُنتَّهُ الجامع الوطني لاحتضان الطوائف، من خلال التاريخ الاجتماعي المتجاوز للمذهب، فطبيعة الراعي الخليجي، يفتقد في أصله لهذه الروح والإيمان بها، وبالتالي كان يدعم فكرة تجميع الأطراف الأخرى في مشروع شركة مساهمة، أكثر منه قوةً وطنية أيدولوجيتها العروبة والمساوات الوطنية، ومشروعها الحقوق والاستقلال.

       فعَجَزَ تيار المستقبل عن إدارة هذا التحول لطبيعته التأسيسية، ولظروف لعبة الأمم الكبرى، وتقدم النفوذ الإيراني، لكن الحريري الأب كان يمثل خطراً على مساحة طهران، وكانت سياستها في العراق ولبنان، المبادرة لتصفية أي طرف يبدأ بالتأثير على نفوذها، حتى لو لم يصل لموقع التنافس الذي يُقصيها، فقررت قتله، حينها برز حجم الفوضى والضعف، في بقية حلفاء سعد الحريري، الذي خُذل من الرياض ومن شركائه معاً.

       وحين نستعرض أسماء الشخصيات المسيحية في الصعيد الوطني المشترك، أو حتى في الرموز التي ظهرت باسم الطائفة وتورطت في نزعتها وفي جنايتها، فإن أحداً لم يكن ليمثل نموذج الفوضى والصبيانية لدى الرئيس عون، فحتى ختام رئاسته، كان أبعد ما يكون عن الرئيس الوطني الموحِد لشعبه، وظل أيقونة مريضة تشحن نرجسيتها الغبية والحمقاء أحياناً، بتلك الذات المشحونة بنفوذها، ونفوذ أسرتها الخاصة، والتي لم تحقق صالحاً استراتيجيا لا لمسيحيي لبنان، فضلاً عن لبنان الوطن.

       ولذلك كان العماد عون بالفعل بيضة القبان التاريخية، للمشروع الإيراني، فيكفي أن تسقي طهران بأداتها المباشرة في حزب الله، هذا الطموح والنزق الذي لا ينتهي، لكي يساعدها في تعزيز قيام لبنان الضاحية لا لبنان الجمهورية، وأضحى ذلك التحالف شركة مساهمة أيضاً، لكن الذراع الأيدلوجي الذي يحمي الشركة، أقوى بمراحل من مساهمة تيار المستقبل.

       لقد كان هناك عجزاً شاملاً في ميلاد روحٍ وطنية جامعة فوق الطوائف، ولكنها تفهمها وتعيش قلقها، فجدول الاغتيالات التاريخي الذي عصف بلبنان عبر لعبة الأمم أو أيدي الصهاينة، أو المنظومة العربية الحمقاء، ثم سلاح ايران المطلق في دمشق وفي الضاحية، أضعف هذا الأمل.

       وكان المشهد يحتاج لشخصية تبعث خطاباً فكرياً مختلفاً، وفي البداية لم يكن أحمد الأسير في صورة الشيخ السلفي مناسباً للتقدم للشارع السني، مع أن حركة البروز الاجتماعي منذ موسى الصدر، وحتى أمناء حزب الله، نمت تحت الغطاء الديني، وهو غطاء لا يمنع من مساهمة رجل الدين في المشروع الوطني الجامع، لكن الأرضية السلفية التي برزت في خلفية الأسير، استُثمرت ضده، ليس لكونه سلفياً بالضرورة، ولكن لكون هذا المشروع يحتاج أن يؤسّس له من خلال فكر النهضة ومنظومة الوعي الإسلامي التنويري في قضايا الإنسان والأوطان، من ظاهرة مالك بن نبي حتى فلسفة علي عزت بيغوفتش.

       لكن صفاء الرجل وخطابه الوطني الاجتماعي، بدأ يصل الى قلوب المحيط السني ثم المسيحي، والشيعي الآخر المعذب في ضاحية إيران، وكانت المهمة تحتاج إلى جيل يؤسس لهذه المرحلة، التي ستواجه قطاع طرق كُثر، وتوافق إسرائيلي إيراني، يرفضُ بروز أي شخصية تخرق مواسم السوق الإقليمي الدولي الذي يلعب فيه عملائهم، وكان الأسير يهدد قواعد هذه اللعبة، فقرروا خطفه وربما قتله!