مهنا الحبيل
3/12/2023
كان سؤال المسيري دوماً يدور حول الواحدية والثنائية، فهو وإن نحت لنا فكره وفلسفته بعد هذه الرحلة التاريخية، بين الشرق والغرب، شرق الروح وغرب المادة، إلا أنه تداخل واشتبك معها، في رحلته الأكاديمية والثقافية الحافلة، بل وحياته الشخصية في مراقبة المشهد الاجتماعي حوله، فكان الباحث اليساري قد غادر زمن الأيدلوجية الماركسية، لكنه لا يزال متأثراً بها وهذا ما أفاده كثيراً، بسؤال النقد والنقض للمقابل اللبرالي، باعتباره هو الجوهر الفكري والفلسفي، للقوة الرأسمالية الامبريالية ووحشيتها الكولونيالية.
فهنا كان المسيري يُحلل كل نموذج يعيشه، وقد يسرف المسيري في بعض هذه التحليلات، التي أشار إلى مبالغته فيها، وهو ما يقتضي أن ننوه عنه هنا في إطار المراجعة الفكرية، وحاجتنا للنقد دوماً، حتى مع الشخصيات العظيمة كعبد الوهاب المسيري، الذي نشهدُ نبوءته في سقوط الحداثة الأخلاقي الضخم اليوم، فبعض استرسالاته تحتاج تصويباً، وخاصة أنهُ يتحدث في كتبه في أحيان كثيرة، كباحث يستدعي القصص الواقعية للحياة، ليُدلّل بها كشواهد بسيطة على ما هو أعمق، في كشف بنية الأنموذج أو قل النماذج الغربية، والتي تنحدر ذاتيتها الأخلاقية، أو ما تبقى منها في صورة أسوء من النموذج السابق.
لكن المركز الموحّد هنا هو في أصل الواحدية، التي يطوف حولها تاريخ الحداثة الغربي، فيصطدم بذاته، لينتزع منها ما هو أشد صلفاً ومفارقة للروح، هذا الإنسان الواحد (الكائن المهيمن المدبر) الذي وصل في رؤية فوكوياما، إلى نهاية التاريخ وهو أي إنسان الحداثة، الذي حسم حتمية التاريخ الكبرى، فلا تاريخ ولا مستقبل ولا قيم حاكمة للعالم إلا عبر إنسان الحداثة المطلق.
وقف المسيري على كوارثها على الذات البشرية، وعلى تطوير الصراعات الصفرية، وعلى دور قانونه في نزع الفطرة الطبيعية، وهو أي المسيري يعايش ذلك في حياته الغربية وخاصة الأمريكية، ويتوسع وكأنهُ يغرف من بحر، عن دور الجدل الذاتي لإنسان الغرب، مع أفكار المجتمع ومع العقل الحائر الثائر، بين مسارين مسار متسائل قلق، أين نهاية الطريق، ومسار تشريعي رومانسي حالم، يبحث عن المزيد في اللذة واللذة المعاكسة، حتى يفسّر أو يطبق نظرية المتعة النهائية، متعة المطلق.
المطلق بناء على ماذا؟
إنه مطلق العدم والعدم وحده، فهو الأصل لواحدية الإنسان، لا روح لا خلق لا استخلاف، لا فضيلة ولا نبل ولا رادع أخلاقي، (فأنا الخالق وأنا المخلوق وانا العدم معاً) إنسان المادة والأميبا، قبل القرد وبعده، فهذا المخزون الثقافي الضخم، في رحلة المسيري مع الأدب الغربي، الأمريكي والإنجليزي والفرنسي وغيرهم، كان أرشيفاً ضخماً، يتدفق في حياة المسيري، بل عند المسيري تأثر متفاعل مع الصور البلاغية، والمجاز الفلسفي العميق لهذا الأدب، وكتب قصائده هو شخصيا، وسردياته في ذات القالب.
لكن ظلت الحداثة كقالباً أدبياً ولغوياً، يُمتّع في لحنه، ولكنه لا يقنع في فكره، ولا أيدلوجيتة، وكلما ظن الباحث أن له قعر، أو أن له قاعدة عقلانية أخلاقية، لا عقلانية مادية جرداء، اصطدم بتلك الكومة من الخيال، الخيال والميتافيزيقيا، التي استدل بها المسيري، على أن الفكرة الإلحادية الفارة من الروح ومن يقين الوجود، هي بذاتها تبحر في روح مما وراء الطبيعة.
فهي تُحرّر لمستقبلٍ غير منظور، وتشتبك مع جدل نفسي عميق معقّد، تُطلق فيها أشرعة تعبيرها، ولكنها تائهة في مقصد الوعي الأخير، فهي كلما اقتربت من التسليم للروح، انقلبت على نفسها وكفرت بهذا الوحي الذي يغشاها رغماً عنها، فتنكسر واحديتها كل مرة، لأنها ترفض التسليم للواحد الذي فطر الروح.
لقد كانت هذه الحتمية التاريخية تسقط أمام المسيري، في ذروة صعودها، حيث لم تبرز هناك منصات مسائلة قوية لها في الشرق، وكانت الفكرة الشيوعية تتضعضع، وتتراجع أمام فلسفة الإلحاد الغربي، ولكن الأيدولوجيتان تتداخل بسبب العقيدة الواحدية، وكانت فكرة المسيري قد نضجت بقوة في بيان الهدم، ولكنها تنتظر بيان البناء المقابل، هنا لحظة اجتياح المركزية الأخلاقية الثنائية، لمشترك الواحدية العدمية التي نقضها بيغوفيتش، فسقطت الحتمية التاريخية المزعومة، وثبتت رؤية التاريخ الوجودي الحقيقي للبشرية، إنه توحيد الخالق الذي تفرون منه.
إن يقينه في هذه الروح التي تخفق بين جنبيكم، في تيهكم في بحثكم عن الخيال وحفركم له، بكل فنونكم وآدابكم، اليقين في الروح له منظومة مختلفة تماماً عن الديانات التقليدية، التي تخترقها الوثنية، وهو التفسير الوحيد الصلب المقنع، الذي يجد السكينة القلبية، إني آراه في كل شيء، ولكني لا أبصره ولا أتصوره مادياً، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، التاريخ الأرض والإنسان بدأ في لحظة خلقه للكون، ولا نجاة إلا في فطرته.