مهنا الحبيل

16/1/2024

هناك علاقة صراع أساسية موغلة في الجذور، بين ملحمة غزة وبين هذا العالم الحديث، وهنا لا بد من شرح المصطلحين، فالعالم الحديث هو هذه الصورة الكبرى التي تحكم حياتنا اليوم، من قرار السياسة إلى سوق السلع إلى المفاهيم الحياتية، التي تسربت لأطراف الأرض ولأركان العالم، ولكن وقعها في الشرق المسلم له حالة خاصة، بسبب ما يملكه من فارق جوهري وتضاد إنساني في مواجهة وحشية المادة، إذن هذا العالم الحديث ليس هو العالم الجديد، فالتجدد سمة بشرية، تأتي في نطاق السنن الكونية العليا التي أنشأها مدبر الكون.

 أما العالم الحديث فهو هذا الهيكل الذي يبسط سطوته علينا، يختطف أرواحنا في حياتها، يَكمُن لنا في كل منعطف من ترويج السلعة، إلى تسليع الإنسان، هذا التسليع يكفل له ضمان نهاية التاريخ بيديه، واعتقال الأسرة البشرية بين معصميه، فهي لا تلتفت ولا تتوقف، ولا تتنفس إلا قفز سوق الحداثة بين عينيها.

       فهو هنا المسيطر في موضات عالمه، وفي فكرة الأسواق الدولية الصاخبة، وفي وقع الغناء الذي يفرضه، لا لحن العزف الذي تمثله موسيقى الروح ولا شحن العواطف، ولا قصص الحب والتضامن في التاريخ البشري للمجتمعات، منذ بوق السكان الأصليين لنجدة المستضعفين من سكان أمريكا الأصليين، حتى حداء عجوز الأرض المباركة، شدو بعضكم يا هل فلسطين.

       هل هو صراع حضارات؟

نعم هو بعينه وفي قلب معركته، ولذلك حضر المصطلح الآخر ملحمة غزة، فهي هنا ليست معادلة صمود المقاومة امام آلة العدوان، والصمود هنا بمعني عدم الاستسلام وعدم تمكن العدو من الأرض التي سحقها تماما، ومع ذلك لم يضمن سلامه فيها، 30 ألف قتيل من المدنيين وخاصة من الأطفال لم تكن فاتورة إسرائيلية وحسب، فتل أبيب الموغلة في التوحش، هي واجهة للمجرم المركزي الشمولي، الذي تضخم أمام شعوب العالم، وكأنه إله الأرض الأوحد، وبالفعل خضعت له أنظمة وثقافات.

 وهو هنا أي العالم المتوحش الذي يقاتله أطفال غزة بترانيم ابائهم وأمهاتهم في نعيهم، وثبات قلوبهم التي ظلت شامخة في صدورهم، وبكفاح فتياتها بين قطرة الماء وكسرة الخبز، وتدوين الصورة المُرّة بقلمهم، الشاهد على جريمة العالم الحديث، ومن سَخرَته من كل الآثمين لحصار فلسطين، وهو في سواعد عجائزها وشيبها، وهم يدفنون الشهداء من شبابها، كل هذه الصور التي قد يختصرها وائل الدحدوح، كمثال رمزي لا كلي، ففي كل حي حكاية مماثلة من نحت الملحمة.

       هذه الملحمة لا تقف عند مسرح الجريمة العسكري، ولا مشهدها السياسي الصاخب، ولا حتى في ذلك الحشد المتواصل من وقاحة بايدن وكل شركائه الغربيون، في تصريحات الدعم المطلق لجناة الهولوكوست، وفي حديثه السخيف الحقير، عن خطابه الرقيق المزعوم لإقناع آلته في تل أبيب بمحاولة تجنب قتل الأطفال والمدنيين!

       لو دققتم في العبارات ذاتها التي يحاول زبانية عالم الحداثة، تمريرها على المنصة المحلية والدولية التابعة لهم، خشية من تأثير الموقف الشعبي الآخر في الغرب عليهم، فستلاحظون إلى أي حدٍ هذا العالم انفصالي وإبادي لا حدود لتوحشه، فهنا الحديث عن أكثر من 8000 طفل ذبحهم نتانياهو وقومه، مع سبق الإصرار والترصد، وبأسلحة أمريكية غربية جديدة، ثم يحدثك ساسة العالم الحديث، عن لطفهم الكبير، بمحاولة التخفيف في جولة الحرب المستمرة الآثمة!

       إنه عالم مختلف تماماً، الإنسان لديه غير الإنسان الذي نشأ على المعمورة، والأطفال لديه ليسوا هم أطفاله أو من ينتخبهم من العالم الجنوبي، لا لسود أعينهم، ولا لروح براءتهم، ولكن لتمرير مصالحه وسياساته، ولا الناس وأخلاقهم ينتمون لمشترك مع هذا العالم، ومن المفارقات أن حتى الفطرة أعلن العالم الحديث رسمياً، انها ليست عالمه، فوصف نفسه بأنهُ أمة مثلية تطارد الأطفال والأسرة، فتسقط قيمها، لأنها تقف أمام مصالحه، وكذلك سحق الغرب أطفال غزة في سبيل عالم حداثته في ذات الحكاية.

       قصة ملحمة غزة قفزت اليوم لأنها شكّلت، لحظة مواجهة للتاريخ الحداثي الذي أطبق على العالم، في الموضة والمولات وفي السلوكيات، فضلاً عن الفنون وعن البنوك، وعن منظومة الترويج الدولية التي تباشر تسويق هذه الأرضية، باسم الأمم المتحدة، رغم أن غالبية دولها الساحقة تخالف طقوس الحداثة وما بعد الحداثة، وقيمها تنتمي الى ذلك العالم الجميل القديم، ليس في تاريخ حروبه ومآسيه، ولكن في ذات إنسانه الذي لم تصادره الحداثة، فتحوله إلى (ريبوت) نُسخ ضميره، وعجز عن إنقاذ ما تبقى من حياته.

       ولذلك جاءت هنا ملحمة غزة، كمواجهة إنسانية، مع جريمة الحداثة العصرية، والغريب أن غزة اليوم تلتحم مع مشاعر وقلوب من تبقى لهم ضمير يقظ، في هذا العالم الغربي، بل إن الأمة التي يستخدمها هذا الغرب، لتبرير فظائعه ودور كيانه المغروس في الوطن العربي، وهم اليهود، بات بعضهم شركاء لحظة اليقظة، ولا يعني ذلك التقليل من دور الفكرة الصهيونية فهي شريك عميق بذاته، ولكن لولا رعاية العالم الحداثي، لم تسللت عقيدة بني إسرائيل المنحرفة، لتتحول الى مشروع استيطاني إبادي.

       وهنا بعث أخلاقي آخر لملحمة غزة، بأنها تعيد توحيد القيم الإنسانية وترجعها إلى جذورها، الأرض لأهلها وسكانها، والغزاة المحتلون هم الآثمون، ومن يدعمهم هو مشروع تديره آلة التوحش الامبريالي، وقبله كان اليهود في الشرق المسلم مطمئنين، آوتهم حضارته، في حين ذبحهم هذا الغرب نفسه، ليس في أفران هتلر فقط، ولكن في أصل المشروع الغربي الحديث، الذي وُلدت النازية في هامشه.

       لقد حطّمت ملحمة غزة هيكل الصورة المزيفة، ودشنت حوار حضارات هو البديل عن صراع حضارة الإبادة، والتي نسميها حضارة مجازاً، ليقف العالم على مشهد الحقيقة، فيتحرر الإنسان الفطري المعتقل في الضمير العالمي.