التشريع بين الشعب والخالق؟
مهنا الحبيل
في مفصل مهم من تاريخ تفكير روسو وحفرياته المستمرة، للوصول إلى قاعدة تأسيسية قوية تبرر مرجعية التعاقد الاجتماعي، يعود روسو إلى هوجو غروسيوس، لبناء هذه القاعدة الصلبة التي يسعى لها، فهو يعارض غروسيوس في إعلانه، أن الشعب يجوز أن يمنح المَلِك حريته، كإطار تعاقد مدني، ولكنه يقول أن غروسيوس تحدث عن الشعب ثم العقد، فنحن نعود للعهد القديم أولاً، وهو أن الشعب باقٍ في أصله قبل تعاقده، فنبطل التعاقد ونحافظ على المفهوم.
وهو وجود شعب، ولا يجوز أن يعطي الشعب أي زعيم هذه الحرية والمرجعية، ولو مَلَك نصف العالم، ثم يرجع روسو إلى مناقشة النسبية التمثيلية في الديمقراطية، على أي أساس تخضع الأقلية للأكثرية؟
يرى روسو أن هناك ضرورة لأصلٍ يُجمع عليه، ولا يوجد في الحقيقة مجال لهذا الإجماع بين الكائن البشري، إلا ربما في حالات الفطرة الوجودية، وأما في اختيار النظام السياسي فكيف نصل لهذا الإجماع، حتى مع وجود هيئة سياسية منتخبة.
إن المفصل الذي يدور حوله روسو، هو محاولة أن يصل الى مرجع قانوني يبرر بنود التعاقد والخضوع لها، وهذا هو الفارق الإسلامي في مرجعية التعاقد، من الوصف حتى التشريع، فالحالة البشرية لا تستطيع أن تفي بتقديم وصف ولا شرح تاريخي، عن وجودها إلا عبر الاجتهاد وتعقب سير الجماعات البشرية، وهذا ما حاول فعله روسو، الذي غرق في العهد الروماني دون غيره، ولم يناقش مرجعية الإبادة في اجماع أو أكثرية (السيناتور).
وهكذا نُقضت أصول العدالة، من هذه الهيئات المنتخبة نسبياً، من طبقة محددة، لم ترعى السواسية البشرية، وكانت تدور على مصالح أمتها القومية، بل والطبقة العليا فيها، إن الإشكالية العميقة هنا، هي في تعريف صفات هذه المرجعية، وهي علوها على المصالح والنزعات البشرية ذاتها، التي تخالطها بطبيعة تكوينها، مشاعر الشهوة والسطوة، أو الحب والكراهية، في دائرة ذاتها، وهذا هو مبرر الحضارة الإسلامية الأخلاقي والتشريعي، في المرجع الإلهي، وهو المرجع الذي قال عنه روسو في رسالة التفاوت، أنه لو ضمن الوصول إليه، لكان بحق مرجعاً معرفيا لفهم تاريخ البشر والأمم.
لكن روسو في ذلك الموضع، استرسل في أزمة الدعاوى الكثيرة، والانقسام الوثني، والمسيحي في صراع الدين المخلص، وبالتالي طرح سؤاله التبريري في نبذ مرجع التحاكم الإلهي، في التشريع والأخلاق، وإن ظل يستدعيه بناء على فهمه، وعلى استقلال استاذه الروحي كاهن سافوا، فحضر الدين مراراً في نظريات فلسفته، وفي تربيته لإميل وبالذات في اعداد الفتيات وزوجات المستقبل، أي أن روسو كان يقارب هذه الفطرة، ولكنه يسد ما عجز عن فهمه باستنباط (طبيعي)، اعتقدَ انه سوف يغطي علم الإله الخالق عبر رأيه.
إن احتجاج روسو ببطلان المرجعية الدينية، بناء عن فوضى تعدديتها وتناقضها، هو صحيح من حيث وضع هذه الفوضى، التي وصلت للمسلمين أنفسهم، فتورطوا في هذه الصراعات، بل وفي خلق إسلامات متعددة، غير أن النص المقدس الأصلي، وما انسحب على الوحيين وقواعدهما، وسلم من تدخل الهوى السياسي، والتواطؤ الديني، فهو بالفعل مبادئ عظيمة لا نظير لها، في وصف الذات البشرية وتاريخ وجودها، وقواعد التشريع التي تصلح الإنسانية فيها.
ومنذ البيان الأول الذي حدد الوجود البشري وقصة الخلق، ثم الكرامة الآدمية، وسر الوجود بصلاح الأرض وبتخصيص العبودية للخالق، ثم وضع الإطار العام لهذه الجماعات البشرية، فأنت تجد فيها مرجعية لا تخضع للنزوات، ولا للمصالح ولا للشهوات، المقربون في الوحي هم من يطيعونه، لأنهم اتبعوا هذه التعاليم والحقائق من ربهم الخالق، ومن نبذ اليقين في مصالح العالمين، كان صدره حرجاً وفهمه ضيقا، ولو ملك كنوز الأرض.
إن قوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) ثم قوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) ونصوص العدالة والإحسان، وتغليظ شأن الظلم، وقاعدة الرعاية للفقراء والمضطرين والمعوزين.
وكون كل تعاليم الخيرية وقانون تشريعاتها، هو من الله الخالق المبدئ المعيد العليم البصير الرحيم، الحكيم الخبير فوق كل إدراك بشري بسيط ومحدود، هو العهد الذي تحتاج له الأمم في أصل قاعدتها التي تنظم حقوقها، وتردع الأمير أو السيد الفرد الذي سعى روسو لكبح صلاحياته، حتى لا يعود الاستعباد إلى الحياة البشرية، الإشكال هو في ضرورة تحرير المرجع الديني وفرز الخلل التاريخي عنه.
وهنا لا إشكال مطلقاً في سعي روسو تنظيم المرجعية الدستورية العليا للشعب، في هيئة منتخبة، لكن رهن السقف التشريعي بين أمزجة الهيئة السياسية، هو اليوم أحد إشكالات النظام الديمقراطي، وتعدديات سقوطه، دون أن يعني ذلك تزكية نظام المستبد الفرد.
لقد سعى روسو بأن يقيم مجموع الشعب في منزلة السيد المطلق، لكنه اضطر من جديد إلى ندب تلك الهيئات وكيلاً عن السيد، حتى يعطي الشعب حقه المرجعي النهائي، أو ينزع الى الاستفتاء لمنع تغول المستبد الفرد، كل ذلك كوسائط تُحشّد لتجنب الاستعباد السياسي، لا حرج فيها، غير أنها جميعاً لا تضمن استقلال ونزاهة، ولا حتى عمق الفهم النافذ لمصالح الإنسان في فطرته.
فهذه الهيئات ذاتها قد تنحط ضد الفطرة، وقد يستفتى الشعب وهو يعتمد على غالبية وليس اجماع، ويصوت لحرب مظلوم، او قانون مجحف ينقض الفطرة، أو ينحاز سياسياً أو اجتماعياً، فهل وصل روسو هنا، للتامين التعاقدي المطلق، لضمان علوية نزيهة للشرعية الاجتماعية السياسية.
لم يصل، والتجربة الأوربية ذاتها، تدلل على ذلك، ولذلك نستحضر هنا أزمة التفكير الإسلامي، الذي انقطع عن فقه الدولة والعمران، وكان مصدره الأعلى كافياً لتحديد مرجعية الخلق وشرعتهم القانونية.