السودان واسئلة الاجتثاث الثوري

مهنا الحبيل

7/6/2022

في مناقشة فكرية على تويتر لفت نظري حِدةٌ لم أعهدها عن أهل السودان، قبل أن أذكر سبب الخلاف اُعيد تصوير الشخصية السودانية في الضمير العربي، وشخصياً ربطتني علاقات قوية بمثقفين متعددين من أهل السودان، من الاتجاه الإسلامي وغيره، وهي صورة حقيقية أحسبها عميقة في وجداننا الداخلي، خلافاً للصور النمطية الاستهلاكية اللئيمة، التي يتبادلها مع الأسف الشديد خطاب السفهاء في أقطار الوطن العربي، سواءً كان ذلك من خلال لعبة الأنظمة الرسمية في الشعوب، أو الاعتراف الضروري عن أن قلب المشكلة في المجتمع العربي، من المحيط إلى الخليج هو الانحراف عن المركز الأخلاقي.

ظل الإنسان السوداني في صورته الأصلية، مضرب مثل في المروءة والتضامن الاجتماعي في الغربة، وكان مع ذلك نموذج للعقل المثقف الواعي المتعدد، مع تواضعه في السلوك وبساطته، وهذا لا يعني أن ليس للقاعدة شواذ، كما أن المصالح وضيق المعيشة ومصادر الرزق تلعب دورها في موقع المثقف، ولكنها حالة لم تُغير من انسان السودان كما فعلت في غيره من أقطار عربية أخرى، وليس صحيحاً أن الفكرة العربية في أوساط المثقفين تجهل خصوصية المثقف السوداني، وهو أن عروبته أو انتماء بعض مثقفيه للقبائل العربية، لم يمنع مطلقاً ثنائية السودان المشتركة بين الوطن العربي المندمجة مع انسان أفريقيا، أكان من المسلمين أو غير المسلمين، فهي أرضية تعدد وقيم شراكة ضاربة في التاريخ.

أكدتُ ذلك لأن بعض الهجوم الذي وصلني كان (لجهلكم في الخليج) بتعددنا الثقافي في السودان، أمرٌ آخر وهو أن قوة المثقف السوداني أيضاً، كانت حاضرة في تشكل العقل العربي الجديد، وتميّزه في التقاطع مع الفكر والفلسفة الغربية، إلا أنهُ لا بدّ من الإقرار بأن روح المثقف التنويري في السودان، قد تختلف أخلاقياً بين المثقف المتأثر بالتولّه الكولونيالي، عن المثقف المـتأثر بالبعد الإسلامي، فبعضهم يصدر منه إشارات تحتقر عطاء الشرق (بتعريفه الفكري لا الجغرافي) الممتد في تاريخه الحضاري.

وأما البعض الآخر فلا يزيده علمه في مؤسسات الغرب، إلا استقلالاً معرفياً وسلوكاً أخلاقياً، واحسب أن حضور الإسلام كقيمة وتربية محاضن يلعب دوراً كبيراً، رغم أن بعض المستعلين، قد يكون رضع من زوايا التصوف والخلاوي، لكنه يشمئز من أي رابطة مع الإسلام والمسلمين.

تذكرت هذه المعادلة إثر حملة الهجوم والسُباب التي تعرضتُ لها من قلة من الشباب السوداني، وفيهم من يبرر ذلك بأنك مجرد إنسان من أهل الخليج العربي (الحقير)، وهي لغة غير معتادة من الضمير السوداني، لاحظتُ حينها أن غالبية أولئك الشباب، يتخذ الخطاب الثوري عبر منصة ملاعنته، والتي يجدها مبرراً لاحتقار كل من يخالفه، بعض الموقف مفهوم من خلال عقود عسف الاستبداد في عهد الإنقاذ، وما تبعه من سقوط الشهداء في مصادماتهم مع المجلس العسكري.

وقد كان الباعث المثير لهذه الملاعنات، هو اشارتي إلى ذكريات الشيخ حسن الترابي ونقده الذاتي لتجربته وعسكرة الإنقاذ، وضرورة فهم خلاصاته، وعدم إسقاط مرجعيته الفكرية المهمة لتجربة السودان، والتي تقوم على فرز خطاياه من خلاصة أفكاره، اليوم يعود بنا المشهد من جديد في مركزية مهمة تحتاج أن تُدرس، ومع أولوية حق أهل السودان إلا أن ذلك، لا يمنع من مشاركة القلم العربي الاهتمام بطموحات النهضة لشعوبنا العربية جميعاً.

يأتي هذا المقال بعد اعلان عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الحاكم، رفع حالة الطوارئ، بسبب ما أسماه تمهيداً لجولات الحوار الوطني، وهو أمرٌ يشتد فيه الخلاف حول مصداقية المجلس العسكري لدى تيارات الثورة، وهنا يقفز أمامنا سؤالين مهمين في تحديد المسار الضروري، الأقل خسارة والأكثر مصلحة لشعب السودان ووحدة ترابه، وتثبيت السلم الأهلي بين أقاليمه، ومن جهة أخرى فتح باب أمل في الانتقال إلى مقدمات تنمية، ومساحة مشاركة شعبية تتجاوز إرث الماضي المؤلم.

وهي صورة يجب التعامل معها بحذر شديد، حين نقارن مآل دول الربيع العربي وخذلان المركز الغربي للشعوب، أمام عودة وتوحش نظم الاستبداد، والزاوية الثانية هي خطورة تحول الواقع السياسي بعد الثورات المضادة، من صراع في الدولة إلى صراع على الدولة وهيكلها وجغرافيتها.

وهو ما يقتضي على الأقل مطارحة الحد الأدنى من التوافق الوطني الممكن، وصناعة مشروع انتقالي لا يُقر مرجعية المجلس العسكري في مشروعه السياسي، لكنه يتعامل مع الفترة الانتقالية بتجاوب يضمن الخروج إلى برلمان وحكومة منتخبة، حتى ولو لم يكتمل إطار الدولة المدنية المطلقة غير المتفق على مرجعيتها بين اهل السودان.

وهي أحد الأسئلة التي توجه لجناح الاجتثاث الثوري، الذي تقوم معادلته على أرض صفرية، تجمع كل من يخالفها مع ارث الإنقاذ، والمجلس العسكري، فهل هذا الاجتثاث متاح وهل هو الحل، وهل هيمنة المعسكر الشيوعي أو اللبرالي المتطرف، على آليات الاجتثاث سوف تخلق بديلاً أفضل.

هل هناك قاعدة شعبية لغالبية تؤمن بأن تيار الاجتثاث الثوري، مفوّض في تحديد المرجعية المطلقة التي ترفض بكل عنف فكري، مجرد الاعتراف بقيم الإسلام، دون أن تُفرز أو تُقهر حقوق الأقليات بل المجتمعات الشريكة في تاريخ السودان، هل خلاف الشارع العام مع عهد الإنقاذ، ومع المجلس العسكري، هو بذات الدرجة والمفصلية التي يتبناها تيار الاجتثاث الثوري، ومن يمثل تيار الاجتثاث الثوري وما هو موقفه من بقية تيارات الثورة، وموقف تيارات الثورة منه؟

إن المركزية الأهم هنا، وحفظ حق الشهداء هو أن تُقدّم الأولويات الأساسية لاستقرار الوطن، ويُضغط على المؤسسة العسكرية لمنع التغول العام، وتُوسَّع مساحة الشراكة الشعبية، لتتمكن الإرادة المدنية بمفهومها السوداني الجمعي، من تأسيس قواعد الدولة المدنية البديل، قبل أن يُسرق قميص عثمان الذي اتخذه السيسي جسراً لجحيمه على أهل مصر.