مهنا الحبيل

2/8/2022

تعتمد مصادر هذه الرؤية النقدية بصورة رئيسية على كتاب مؤسس سنغافورة الحديثة (قصة سنغافورة)، ومن المهم للغاية أن نُلخّص أزمة ميلاد الاستقلال التي شملت أرخبيل المالايو وسنغافورة وبروناي، والأخيرتان كانتا أيضاً ضمن تواجد ديمغرافية أمة المالايو أهل الأرض والتاريخ القديم، التي واجهت حملات الإبادة الكولونيالية الغربية القديمة والحديثة، ولكن هذه القومية صمدت في أرضها، وظلت رقماً صعباً رغم التهجير السياسي الحديث، في عهد بريطانيا.

كان المشترك بين تنكو عبد الرحمن كقائد للملايو ولي كوان يو، هو ضرورة التعامل عبر الضغط السياسي والكفاح الفكري مع العهد الأخير للوجود البريطاني، الذي أبدى الاستعداد للانسحاب، ولكن مرحلة الشروط والتنفيذ كانت تحت الضغط والتفاوض، ويتفق لي كوان مع د. مهاتير محمد، على وجود مبالغة كبيرة لدى تنكو عبد الرحمن في مراعاة الإنجليز، وبالذات في التعامل مع حركة عدم الانحياز، التي كانت أقرب للمعسكر اليساري، ولكنها كانت تمثل ضرورة توازن قصوى.

ولكن بالعموم فإن موقف تنكو عبد الرحمن كان متطابقاً، مع لي كوان في علاقتهما مع الإنجليز لهدف تأمينٍ مستقل للإقليم، وإشارات كوان لتقارب أكبر لتنكو من الغرب منه، لا تٌصدّقها تفاصيل علاقاته ووثائقه المشارة إليها في كتابه، وخاصة خاتمة مشروعه السياسي في سنغافورة.

حينها لم يكن للي كوان منزلة توازي تنكو، فموقعه لم يكن مؤهلاً مطلقاً ليكون زعيماً مقبولاً للمشاركة عند الملاويين، وهم الديمغرافية الكبرى في الإقليم، فضلاً عن أن يكون الزعيم المطلق للأرخبيل، ولكن تنكو عبد الرحمن قرّبه ودعمه، وأشركه في الخطة الإقليمية والتي كانت تُنسق مع لندن في مواجهة خطرين كبيرين، الأول تهديد الزعيم الإندونيسي التاريخي أحمد سوكارنو، بغزو ماليزيا وضمها عنوة، وخاصة بعد التحامه مع بكين وموسكو في ذروة تحوله اليساري.

أما الثاني فهو قوة الأحزاب الشيوعية في أرخبيل ماليزيا، وفي سنغافورة والدعم المطلق لها من الصين، وهنا تلعب القومية المشتركة بين الشيوعيين في الصين، وبين الصينيين في الملايو وفي سنغافورة دوراً بالغ الحساسية، يصنع اشتباكاً صعباً، لو قُذفت فيه ماليزيا لما وصلت ليوم الاستقلال ولا الميلاد الجديد، أو لربما كانت ستتحول لمجرد مسمى دولة في هيكلها السياسي، يخضع كلياً لسلطة ونفوذ الصين، وهو الخطر الرئيس الذي لا ينفك عن الماليزيين حتى اليوم، ومتجذرٌ في قلقهم السياسي والاجتماعي.

كان لي كوان يعلم أن واقع تجربته السياسية القوية والفعّالة في سنغافورة، لن تضمن له مقعداً مؤثراً وخاصة في المشروع النهائي، فسنغافورة لن يكون استقلالها متاح ومؤمّن، إلا إذا كان عبر استقلال الملايو (ماليزيا اليوم) أولاً، فهو يخشى من القوة الشيوعية الصينية في سنغافورة، المتمكنة من النقابات واتحادات الطلبة والحرفيين والمهنيين، ولذلك أًصّر على ربط سنغافورة باستقلال ماليزيا، والعجيب أن تنكو عبد الرحمن تجاوب مع حرية سنغافورة وبشهادة لي كوان نفسه، رغم أنهُ كان مدركاً لخطر ضمها على ماليزيا، وهذا خلافاً لما قاله مهاتير محمد للجزيرة.

فتنكو بحسب سياق قصة سنغافورة استجاب في ظل ضغط لي كوان، الذي استثمر رغبة التاج البريطاني للدمج، فلندن كانت تخشى من تحول شرق آسيا لقبضة الصين الشيوعية وملأ الفراغ الإنجليزي الذي كان ينحسر عن مستعمرات بريطانيا، ويُثبّت لي كوان في كتابه مقولة تنكو عبد الرحمن له، والتي تُفهم اشاراتها بوضوح بأن هذا الأرخبيل اسمه الملايو، وأمة الملايو هم ترابه وشجره وروحه لا مكان لهم غيره، حيث قال للي كوان: (إن صينيي وهنود ماليزيا وسنغافورة، لهم وطن يرحلون له، ولكن ليس للملايو إلا هذا الوطن)، ولم تكن تسمية صينيي ماليزيا أو هنودها، مشروعاً مستحدثاً لمنظمة الملايو المتحدة (أمنو) العدو التاريخي للي كوان.

ولكن المصطلح ارتبط بالمُجتَمَعَين، عبر التشكلات السياسية الاجتماعية للمهاجرين الجدد في سياسة بريطانيا، وتواصل هذا التمسك بالمرجعية القومية لكلا المواطنتين، (الصينيين الماليزيين والهنود الماليزيين)، حين تجاوب تنكو مع مطالبة ضم سنغافورة لأرخبيل الاستقلال، رغم تهديد التغيير الكبير في تركيبة ماليزيا السكانية، لم يكن هناك صراعاً بينه وبين لي كوان، وواصل لي كوان من خلال موقعه كأحد المسؤولين في مشروع تنكو للاستقلال، مشاركة الزعيم الأبرز في رحلة ماليزيا وسنغافورة للاستقلال.

متى إذن وقع الخلاف؟

يداوم لي كوان على التبخيس من تنكو كما أن (روايته عنه) في المشروبات الكحولية وفي النساء قبل توبته، واتجاهه لمفاهيم الوحدة الإسلامية كأمينا عاماً لمنظمة المؤتمر الإسلامي، لا يُمكن أن تقرأ بصيغة مهنية ولكنها تفهم من خلال نفسية أزمة للي كوان، والتي كانت تتدفق عليه في فصول قصته مع أمة الملايو، وهو ملف له بعده وإشكاليته أيضاً في ذات المجتمع الماليزي القديم.

والذي انتقده د. مهاتير محمد بشدة في كتابه معضلة الملايو، وهي قصة طويلة في عجز الذات الملايوية للتحول إلى نهضة فرد تصنع نهضة مجتمع، ثم تتحول إلى قاعدة قوية للنهضة الصناعية والمدنية، وهو ملف يحتاج إلى علاج وطني مركزي، فرغم وجود طبائع تغلب على الشعوب، إلا أنني أرى هذا الأمرُ مبالغٌ فيه وأحسبُ أن ماليزيا لو سَلِمت من نكستها في الفساد السياسي والاقتصادي، واستثمرت روح المرأة الناهضة النشيطة فيها، مع خلق أجيال تعليم مميزة، تبني على تحالف مهاتير/ أنور، فإن هذا التوارث للشعور بعجز الذات سيزول.

وكلا الشخصيتين اللدودين، لي كوان ومهاتير كانا يؤكدان هذه الأزمة، لكن كل من مساحته، فكوان يشير لها في معرض عجز أمة الملايو المتخلف، الذي يجب أن يتحمل مسؤوليته، فتكون القومية الملايوية في أرضها، تحت سياق الانقياد لا القيادة، ويُفتح الطريق أمام صينييها دستورياً لقيادة الأرض والشعب معاً، وهو هدفه المعلن لتبرير صراعه، أما مهاتير فكان يَنقد الذات لإنقاذها.