مهنا الحبيل
11/10/2022
ذكرنا في مقال الشباب العربي وجدلُ الإذعان، الظروف التي ساعدت في انتشار ظاهرة التكفير والتضليل باسم الإذعان للشريعة، بين بعض شباب التوجه الإسلامي، وما صاحبه من حملة جديدة تهاجم فكر النهضة والتنوير الإسلامي، ويجب التنبيه هنا على المساحة المستحقة للشباب في التوضيح، وأن غياب القدرة ابتداءً من فهم القضية، يكون لحداثة سنهم أو لعدم اطلاعهم، وأن بعض هؤلاء الشباب بل وغالبيتهم، يًصحح نظرته وموقفه بعد تبين الأمر، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.
ومفهوم الثائر الأيدلوجي، المواجه بشدة للمجتمع وللآخر، ليس حكراً على التيار الإسلامي، بل هو تجربة عربية عابرة لكل التيارات، القومية واليسارية وغيرها، حيث أن عنفوان الانتماء الشبابي وخطاب المواجهة، يخلق لديهم تحفز يعمي عن فهم قضية الحوار.
نطرح هنا أيضاً إشكالية معيارية التقييم، ونستدعي على سبيل المثال أن التكفير أو التضليل بحجة عدم الإذعان للشريعة، استُخدم في مدارات زمنية مختلفة، بل إن أحد أئمة الأمة العظام ابي حنيفة النعمان، تعرض لحملة تكفير من تيار حنبلي متطرف، رُفض من مدرسة الحنابلة، لو قرأت نصوصهم الشرسة ضد ابي حنيفة وتكفيره، لفزعت منها، وقس على ذلك فترات عصيبة من تاريخ العالم الإسلامي، استخدم فيها الاستبداد السياسي، حجة عدم الإذعان للشريعة، وكان أحد ضحاياه الإمام ابن تيمية نفسه، الذي يُحتج بمنهجه اليوم، من قبل تيار يتبنى التوسع في التكفير بعدم الإذعان.
وفي مطلع السبعينات، تحالف الشيخ ناصر الدين الالباني وهو محدّثٌ مسندٌ للسنة النبوية، مع الدولة السعودية ومؤسستها الدينية، في الهجوم على المذاهب الأربعة للعالم السني، والذي أيضاً حمل نصوصاً خطيرة في التضليل أو التكفير بناءً على رفض تقليد المذاهب السنية، وأن ذلك من رد السُنّة وعدم الإذعان للشريعة، وحينها كان هذا الصوت والسوط شرساً، زمن الميزانية السعودية الضخمة والغطاء الأمريكي السياسي لها.
وهناك صورٌ نسخت في مدار التكفير والتضليل بعدم الإذعان، على أجيال من مفكري العالم الإسلامي ومن أئمة الفقه فيه، وكان منهم العلامة الراحل يوسف القرضاوي، فهذا المدار محل إشكال كبير وخاصة حينما يتبين بهدوء دوافعه، وهو اليوم في دورة جديدة، تعتمد على فكرة محددة ممكن عبرها أن نشرح قلب المأزق.
هذا المدار هو أن القضية ليست في عدم الإذعان للشريعة، ولكنها في عدم الإذعان للتيار أو الفقه المتغلب في هذه البيئة أو تلك، سواءً كان ذلك عبر سطوة حكم، أو سطوة شعبية جماهيرية، وكان الشيخ محمد الغزالي المعاصر، يقول ان استبداد الجماهير أخطر من استبداد السلاطين، لصعوبة اسقاط سوط التكفير في ضجيج مشايخهم، وهو شخصياً، قد تعرض لجولات من ذلك التكفير، خلال تحالف تيارات سلفية والمشروع السعودي، ثم استُخدم (الإذعان للشريعة سياسياً) في النموذج المتطرف الأخير في جماعات الجامية، وهي تنتشر بذات قاعدة التمويل السياسي.
فهل هذا يعني أنهُ لا مدار محددٌ للشريعة ولا سقف لها، ولا فلسفة متباينة مع بقية المذاهب المادية والروحية، وبناء على ذلك فليس لها رؤيتها الكونية والإنسانية المختلفة، فنقول بكل تأكيد كلا..
إن مدار المسألة واضح في النص القرآني، بل وجلي في الاستبصار العقلي، في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا) إن القطعية القرآنية هنا، واضحة جليّة، فكليات الإسلام وقطعيات الإيمان ومداراته غير القابلة للتأويل، لا يُمكن أن تتحول إلى صفقة، يقبل بها الإنسان ما يعجبه ويرفض ما لا يعجبه، والعقل هنا له مدار استدلال وفهم، وليس ملغي، ولا محيّد، ولكن أي عقل نقصد ما قام على تراتبية الاستدلال وشواهده، أم ما جُعل مرجعاً تجريبياً في نصوص الشريعة، تختبر عند كل دورة زمن فيقبل منها ويرد، بحسب تاريخية العقل المادي الغربي.
فهذه المشارطة على الشريعة لا محل لها في التسليم بالرسالة الإسلامية، فهي مشارطة إقصاء وحذف لا مجادلة في الفهم والتأويل، وعليه فإن خلط المشارطة على الشريعة، وإعادة تكييفها، بحسب ما يتناوله العقل التجريبي، أو التوظيف السياسي، أو الإطار الحداثي المتعدد، مختلف عن حق فهم النص العقلي بل والطمأنينة القلبية به، والتي كانت في حوار الله جل في عُلاه مع أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام.
وخنق كل اجتهاد مقاصدي، يحرر مسألته في مدرات مختلفة تماماً عن فقه الطهارة أو بقية العبادات الفردية، بحجة الإذعان للشريعة، من شيوخ لا علم لهم بمسائل الفكر، ولا بجدل الفلسفات ولا بأحوال العمران في تاريخ الشعوب، هو خلل كبير، حتى لو كان ذلك من خلال تناول أئمة نقد متقدمين، نقضوا بحسب رؤيتهم مفاصل التفكير الفلسفي، في ذلك الزمن، فالأمر هنا لا يغيّر مرجعية التحكيم وهي أن الحكمة ضالة المؤمن.
وأزمة فلسفة أو سقوطها في مدار، أو حتى عدوات قومها للمسلمين، لا يحجب أحقية الجدل والحوار، وان الإسلام يؤمن ويدعم المشتركات الفكرية والأخلاقية بمنطق قوي شجاع يعتمد على أن مرجعه الإلهي، هو نص مقدس يعلم بأحوال البشرية.
وان ما اُنزل من عند الله مفاهيم هداية متعددة، فيها ما هو فردي وما هو كوني، لتنظيم حياة الشعوب وعلاقات مصالحها، كل ذلك يخضع لمدارات التأويل وانضباط أدواته، وليس لمشارطة هذا الشيخ أو ذالك الداعية التربوي، الذي ينقل معارك متقدمة من تاريخ المواجهة بين علماء الرأي وعلماء الظاهر، ثم يقيس موقفه عليها، أو أنه يجعل الأمر وكأنه مباراة رياضية، كل همه فيها أن يبقى الجمهور في حالة ضجيج لملعبه، فالإسلام فوق النزعات والتعصبات المتعددة، وأكبر من أن يحتويه أو يُعبّر عنه أي تيار.