مهنا الحبيل
18/10/2022
عُمّد الملك تشارلز الثالث في قَسمه التاريخي بحامي العقيدة المسيحية، كان حضور الدين والطقوس الكنسية مختلطاً بالتنصيب السياسي، استُدعي التاريخ الممزوج بالتراث المسيحي العميق، الذي كان مذهبياً خالصاً أيضاً، فالكنيسة الاسكتلندية الموحدة، التي أقسم عليها ملك بريطانيا كانت تذكّر بحرب الانتصار البروتستانتي الدموي على الكاثوليك، حشدٌ من المصطلحات والطقوس، أختفى عن التحول التاريخي لأوربا إلى ملكيات دستورية، حُيّد فيها التاج في عدة دول عن الحكم التشريعي والتنفيذي والسلطة القضائية.
غير أن صوت المسيحي العميق، لا يزال يتردد في جوف الحجاج والنسّاك المسيحيين السياسيين، إن رمزية الصليب المتعدد، تحكي قصصاً أخرى، وصوت الكنائس في ضمير إنسان الغرب، يُعيد سؤال المستقبل من جديد، أين هو الضمير الديني في انثربلوجية الإنسان الغربي، وهل توارت حقيقته مع كل تطورات الدولة المدنية، ومع نسخة التوحش الأخيرة في الحداثة المادوية، لماذا إذن يعود اليمين العنصري بقوة من جديد، ولماذا يعود بإرث مسيحي عميق، ويستنفر هويته المركزية في مقاومة المهاجرين الجدد وهويتهم المختلفة.
كيف يجمع الغرب بين هستيريا المثلية القهرية، التي تطوف العالم وتتبناها الرأسمالية المركزية، وبين بقاء الروح الدينية وأنشطة التبشير الضخمة، ومئات الملايين من المستمعين للبعث المسيحي الجديد، لماذا ينشط دعاةُ كنيسة شهود يهوا، وهم يهاجمون (الوثنيين) بحسب وصفهم للكاثوليك وبقية البروتستانت، ولماذا تزداد شعبيتهم بين المسيحيين وهي تُكفّر من سواها.
هذه أسئلة مركزية تحتاج إلى بحوث ودراسات عميقة، وتحتاج إلى قواعد رؤية مستقلة عن الازدواجية الغربية، واضطراب الذات فيها، لتحديد معادلة تطورها ومآل مستقبلها، إن المسرح الملكي الذي احتضن تنصيب تشارلز، كان يستدعي نصره على جزءٍ من الشعب البريطاني، من كاثوليك ايرلندا الشمالية وغيرهم، وتُشير الصحافة البريطانية، إلى أن كاثوليك بلفاست صعدوا لأول مرة في نسبتهم، مقابل البروتستانت، مذهب الملكية الذي هزموا أمامه، وعليه فإن عودتهم للتوحد مع ايرلندا الجنوبية أمرٌ وارد.
لقد عادت رياح المقاومة المذهبية، رغم اتفاقية الجمعة العظيمة بين الجيش الجمهوري الإيرلندي ولندن، لكن الدين المذهبي والصراع المسيحي – المسيحي، لا يزال قائماً بين الكاثوليكية القديمة والمنشقين، وليس فقط بين الكاثوليك والأرثوذكس، وهناك صدام مسيحي جديد، قد يصل لمواجهة نووية بين بوتين الروسي الأرثوذكسي والكاثوليك في تحالف كنائس الانجلوساكسون، فهل هذه الجذوة العائدة تشير إلى مستقبل آخر؟
أما أن الأمر يعود إلى فشل العلمانية الإلحادية المتطرفة، وعجزها من جديد عن خلق مظلة استقرار نفسي لشعوبها، تؤسس لاستقرار مطلق، فأين هو هذا الاستقرار في ظل رياح الصراع الجديدة في المواجهة العالمية، التي كلا طرفيها ينتمي إلى قطبي المشترك العجيب، الفلسفة الوجودية ومأسسة الإلحاد، وحرب الكنيسة العميق.
إنها مسارات تفكيك اضطرارية تحتاج إلى علم استغراب، بعد أن أَنهك الغرب العالم والدراسات الأكاديمية، في استشراقه السياسي، الذي صرف وجهه عن رحلة الإسلام الكونية والمعرفية، وانشغل بمهمة تدمير الدين أو تحييده، خشية من البعث الإسلامي المتمرد، فهل تحرر الغرب من المسيحية، أم أنهُ يغرق فيها من جديد.
بحسب الطقوس المقننة في الدولة الإنجليزية الحديثة، سُجيّت الملكة في نعشها، وحُمل جثمانها ليطير في محطات بريطانية، كان التاج عُصبتها الأخيرة ومركزية هويتها المعقدة، وتحنيط الجثمان طويل الزمن، يمارس في عدة دول وعقائد، لا يزال جثمانهم شاخصاً يتناوب على رؤيته الناس، أما الملكة اليزابيث فقد استغرقت أياماً في تنقل نعشها، وزمناً حتى أُعيد الجثمان إلى الأرض، نعم أعيد إلى الأرض!
إنها الحقيقة الكبرى أن الروح لن تعود ثانية، ولن يُمدد حضور جثامين الراحلين دقيقة في أعمارهم، مهما نُصّبت جنائزهم، ومهما بلغت الطقوس من فخامة وتعقيد وبرتوكول، فإن ذلك كله لا يعني شيئاً في الحقيقة، ومؤكد أننا نتفهم مشاعر ذوي الراحلين، مهما اختلفت دياناتهم وحزنهم، لكن المبدأ الإسلامي هنا، متطابقٌ مع الفطرة البشرية، وأن بساطة الشعائر، وتعجيل الدفن، واتقاء معالم التقديس في الأضرحة التي رفضها الإسلام، هو في الحقيقة فلسفة عميقة بسيطة، إن أهل هذه الأجساد يعودون لمصدر من فطر أرواحهم.
وأن أجسادهم تعود لتتحد في أجداثها بالطينة الأولى التي خُلق الناس في تربتها، وللروح قصة أخرى، واضحة المعالم ثبّت مآلها القرآن، خَلقٌ متباينون عن الخالق، أودعت الروح في أجسادهم، ثم استردها إلى ملكوته، ملكوت لا يُنقض ولا يورث، وهي هنا مفصل القول الأخير في حياة البشرية وسؤالها الكبير، هل مآل الرحلة الإنسانية مادية أم حقيقة روحية؟
لقد كنتُ اراجع مؤخراً رسالة التسامح لكل من فولتير وجون لوك، الأخير استثنى المسلمين من حق التسامح معهم، باعتبارهم كفار مطلقون، ولكن الشاهد هنا في كلا الرسالتين، هي أن فولتير اللبرالي التنويري، وجون لوك الواعظ المسيحي الأخلاقي، هو حضور الله والدين الروحي في رسالتهم، فكلا الشخصيتين يُصرُ على أن الضمر الديني قوي في طبيعة الفرد وأثره عليه، وأن النسخة التي سيطرت على الثيوقراطية الأوربية، في صفقة مقصلة القيصر وصليب الكنيسة، والتي اخذت قروناً من الزمن، ليست كل قصة الدين في حياة الإنسانية.
بمعنى أن فولتير وجون لوك، كان يقولان بأن هناك حقيقة دينية، متوارية عن المشهد السياسي والاجتماعي، عصفت بضمير الفرد، وقطعت حبال حريّته، ومزقت استقراره الاجتماعي والنفسي، ومنعته من الإبداع، وبحسب نظريتهما، فذلك كله لا يُمكن أن يُجزَم به كتمثيل للدين المسيحي الآخر المتواري في القرون الوسطى، ولا يمكن أن يُلغى من حياة الفرد كدافع أخلاقي.
في هذا المفصل نوجه السؤال للأكاديمية الغربية، وتأثيرها في سياسة دولها، ماذا عن الإسلام الذي لم يتوارى وظل ينبض في فكره، رغم خيانة سلاطين وساسة مستبدين وعلمائهم باسمه، لماذا على الشرق أن يكفر به، ويتخلى عن ضميره الأخلاقي؟