مهنا الحبيل
22/11/2022
في لقائه مع أوبرا وينفري قصّ ديف شبيل قصة انقطاعه المفاجئ، وشبيل من أشهر ممثلي (الستاند كوميدي)، التي تحصد له عشرات الملايين من الدولارات، ورغم أنه اعتنق الإسلام في رحلة بدأت منذ عمر السابعة عشر، بسبب رواية شيّقة قص حكايتها في مقابلاته، وكانت مرتبطة بالتعرف على سلوك عمال مسلمين، في مطعم البيتزا القريب من سكنه، جذبه لهم سلوكهم وأخلاقهم، فدعوه كما دعاه غيرهم للانضمام لركب المسلمين، وهو ابن لأستاذين اكاديميين من الأمريكيين الأفارقة.
لكن شبيل رأى أن يمضي في طريقه الفني، وهو عالم معبأ بالماديات، صاخب في سوقه، هو بالتأكيد يتقاطع إن لم يكن في قبضة السوق الرأسمالي، وأين هذا السوق؟
إنه في أمريكا، ملعب الحداثة المادية الضخم، وحيث تهيمن ورشة لا تهدأ من صناعة السوق، بعض هذا التصنيع وتجارته الرائجة، هو في ضخ مفاهيم الإثارة الحديثة، وإشعال الأجيال بها، ثم حصاد نتائج هذا الإقبال من نوافذ صناديق السوق الرأسمالية، التي تدخل كل بيتاً من هذا العالم.
حكاية طويلة لسنا في وارد الاستطراد فيها، كما أننا لا نلغي مسارات جانبية أخرى، قد تكون ذات معنى مفيد وإشارات ضوء رشيدة، أو نبيلة في طيات العهد الأمريكي، أو بين حشود الأمم المزدحمة فيه، وقد لفت نظري أن ديف شبيل عَبَرَ أيضاً من رواق حي هارلم في نيويورك، الحي الذي ينبض بذاكرة الصدام، والتمرد، ويعكس مركزية المقاومة مع العنصرية، كما يعكس قرار الأمريكي الأفريقي بتحويل حربه إلى فوضى، قد تهلكه كما تهلك خصومه، إلا في رحلة مالكوم إكس التي نحتاج للعودة لها.
إذن انهالت ثروة الحياة على شبيل، ورأى أن يمضي فيها لكي يحصد نصيبه منها، ومع ذلك ظل متمسكاً في لقاءاته بشرح الدين الجميل كما يسميه وهو الإسلام، غير أن هذا الصخب وعربات النقود المتتالية، تظل تجذب قلب الإنسان حتى لو كان مسلماً، وقد تكون مادته الإعلامية التي تعبر بين أروقة سوق وول ستريت، وبورصات هوليود وغيرها، لها ما يبررها، في إدخال السعادة والبهجة على الناس.
الناس حيث كانوا أو أسرة الإنسان الكبيرة، والتي جزء أساسي بل جوهر محنته تكمن في عمق هذا السوق، ازدحمت العقود على ديف شبيل، في لحظة من تاريخه الناجح أقبل عليه موسم عقد جديد، فرصة ثروة جديدة، لكن بلغه اتصال عاجل، ديف.. والدك مريض، لعلك تزوره، هنا كان مكنوناً في ضميره يحاول الخروج، يهتف فيه من بعيد، لكن صخب السوق أصم أذان القلب، قال ديف سأمضي في الموسم، ثم أتوجه لزيارة والدي بعد انقضاءه.
بعد أيام وصل لشابيل الخبر العاجل الجديد، ديف.. والدك قد مات، ماذا؟
لن أدرك رؤيته، هل رحل، ألن أرى والدي من جديد، انهارت قواه وانخرط في رحلة وجدانه الأسيف المتألم، باتت الدنيا سوداء بين عينيه، مظلمة رغم أضواء المسرح الأمريكي، التي تشخص لها الأبصار، ترك الموسم وقرر أن يحج إلى أفريقيا، كان ديف متأثراً برحلة السيدة هاجر في الحج، بإيمان إبراهيم أبي الأنبياء، بقصة زمزم الذي انفجر تحت قدم إسماعيل، ولكن زمزم الرحمن ضم روح هاجر، وأنزل السكينة عليها.
هو ذات المعنى الذي قرر أن يقصده في أفريقيا، يقول ديف شبيل، أن الإنسان الأفريقي القديم، كان في مواسم الجفاف يفتقد مواضع المياه، فيحبس قرد البابون ثم يترك الملح متاحاً أمامه، والبابون يحب الملح، فيلتهمه ويعطش حتى إذا تمكن منه العطش، أطلقه فإذا هو يشتم ريح الماء ولو بعد، فيتتبعه صاحبه حتى إذا وصل وشرب، عرف الرجل الأفريقي بئر الحياة.
يبتسم شبيل بألم وهو يقول لأوبرا، لقد عطشتُ للروح ولكني لم أكن بذكاء ذلك القرد، جاءني نداء الروح لكي أسقيها من أبي، ولكنني تخلفت عن اللحظة.
إنها القصة العميقة، التي نبصرها في هذا العالم الجديد، عالم يتسابق في تزييف الواقع، يضلل الرؤية، يهدم كل صلة بالأرواح وبخالقها، ويعمل على هدم كل فضيلة وقيم، ولذلك وهنا المفارقة، أن البحث عن الروح، لا يزال قائماّ في قلب أسواق الحداثة الرأسمالية، لأنه يقين وحقيقة، ولأن الإنسان حين تعطش روحه، يلتمس الطريق إلى سقياها، فمن يسقيها إلا الله؟
كان ذلك الهاجس يسير معي في هارلم، وبقية شوارع نيويورك، كنتُ أشعرُ بأني أطوف حول صورتين متناقضتين، ولقد حدثني أحد الباحثين المهتمين، بان إدارة مدينة نيويورك قديماً وبكل مركزياتها، من حكومة محلية وشرطة وغيرها، قد نفذت مقترحا تقدم به الأكاديميين لتغيير وضع حي هارلم، الذي بات في قلب المدينة، ولكن نسب العنف والمخدرات والجريمة، تمنع المدينة من فتحه للسياح واستثماره وضبط حركته.
وبالطبع لن تتوجه المركزية الرأسمالية في أمريكا، لعلاج يخرج به المحرومين الغاضبين في هارلم، من الأمريكيين الأفارقة، إلى حياة جديدة تُصنع بمداد الروح، كيف يَمنح صُنّاع الوباء الترياق للضحايا، من البيض أو من الأمريكيين الأفارقة، فالبناء الرأسمالي يتقدم كل شيء وعبر كل شيء، فكانت الحيلة أن هذا الحي لن يقبل إلا أخوة أفريقيا، الأشقاء للأمريكيين الأفارقة، والمستقلين عن تاريخ الرجل الأبيض الأمريكي.
فاستقدمت الهجرة الأمريكية شعباً جديداً لهارلم من غرب افريقيا، يُصلّون ويصومون ويرفضون الكحول والمخدرات، فتغير حال الحي وبدأ الاستثمار فيه، كان من الممكن أن يتم ذلك عبر منظمات الأمريكيين الأفارقة المسلمين، لكن ذلك قد يهدد توازنات القوى التي تراعيها السلطات الأمريكية وعمقها الرأسمالي، لكن وفي كل الأحوال كان نداء الروح والقيم، هو المشترك بين القادمين الجدد من غرب افريقيا، والأمريكي الأفريقي والأمريكي الأبيض، إنه نداء الروح الذي يمنح حبل الإنقاذ، رغم أن هناك من يصد الجميع عن بئر الحياة.