كندا التعددية وفض النزاعات الشرقية

مهنا الحبيل

16/6/2020

تكثفت الهجرة إلى كندا خلال العقدين الأخيرين، وخاصة بعد تشريعات البرلمان الكندي لتسهيل قيود الهجرة، واللجوء والحصول على الجنسية الوطنية الكندية للاجئين والمهاجرين بعد إتمام شروطها.

وتاريخ الهجرة في كندا واسع، منذ تأسيسها ومنذ مواجهات استقلالها القومي وحربها الأهلية بين كيبيك الفرنسية والمقاطعات الإنجليزية، والرحلة الصعبة التي خاضتها تجربتها الاجتماعية، والتي حُرر من خلالها الدستور، ووثيقة الحريات، ومثّلت هذه المرجعية الدستورية الأساس القانوني، للسلطات والمجتمع الكندي.

وساهم هذا التحرير الدستوري، والثقافة المجتمعية في خلق بيئة سلام وتعايش تعددي، بين تشكيلات الكنديين المختلفة لهم، من كنديين من السكان الأصليين (هنود أمريكا الشمالية) ومن أصول غربية أسسوا كندا الحديثة، ومن الكنديين الأفارقة، ثم موزاييك متعدد واسع، من أمريكا اللاتينية وآسيا الهندية، وأقاليم الشرق المتعددة العربية وغير العربية.


ورغم أن هذه الثقافة هي في ذاتها، أرضية أولية مشتركة لخلق وطنية اجتماعية موحدة، لكل الكنديين، ولتأمين المسار الحقوقي، وحماية الفرد والطفل وهويته القيمية، وحصار الخطابات العنصرية المتعددة، إلا أن كندا أيضاً، تواجه عدد من التحديات العنصرية، التي قد تتطور إلى تكرار أعمال عنف خطرة للغاية، كما أن مساحة الحقوق وخاصة للسكان الأصليين، لا تزال بعيدة عن مستويات التكافؤ للعدالة الاجتماعية.

وفي ذات الوقت فإن هذا الإرث التعددي، وتبنيه في خطاب مجتمعي واسع، ومن مؤسسات حكومات الأقاليم، والحكومة الفدرالية، والبرلمان الكندي ومنظمات المجتمع المدني، وغيرهم من المؤسسات، أوجد روحاً أخلاقية إنسانية، تجمع الناس على مفاهيم التضامن والرحمة، واحترام أفكار الأفراد وقناعتهم، وهذا أساس ممتاز لتحويله لقاعدة عمل، تنقل هذه المساحة الوطنية، إلى حراك فاعل على الأرض، بين موزاييك كندا، ومن كندا إلى العالم.

وأسعى عبر هذا المقال لشرح الأفكار الرئيسية التي يمكن أن تحول في فهمها، أو نقدها كقاعدة عمل لمشروع ثقافي وأخلاقي حيوي، لصالح كندا والمجتمع الكندي العربي والشرقي من مواطنيها، ينعكس على الوطنية الاجتماعية لكندا، ولصالح الوطن الأم، الذي يعاني من صراعات صعبة وعنيفة، تملك كندا مؤسسات دولة وموقع غربي مهم، يمكنها أن يحدث فارقاً لصالح الجميع.

وهذه المادة هي ضمن اهتمامات الكاتب، في المركز الكندي للاستشارات الفكرية في تورنتو، الصغير والمحدود، الذي آمل من تأسيسه يناير 2019، أن نطلق عبره منصة حوارية ثقافية في اتجاهين رئيسيين، يساهمان في نجاح القيم الأساسية للشعب والدولة الكندية، وتعزيز مكانة كندا في العالم، وخاصة أقاليم الشرق، كون أن كندا من أهم الدول الحاضنة لهجرات هذه الأقاليم.

المسار الأول: تعزيز مفهوم الموزاييك الكندي (التعدد العرقي والديني والثقافي للكنديين), وخاصة التحديات الطارئة بناء على انقسامات الشرق، ولذلك ستعمل المنصة على تنظيم حلقات حوار كجسور ثقافية واجتماعية، تساهم في معالجة بعض الاحتقانات الاجتماعية، بين موزاييك الشعب الكندي، ورفض تسيسيها داخلياً، أو ربطها بأزمات الشرق، الذي يضر بقيم كندا المتحدة.

كما أن هذا المسار سيسعى لتعزيز لغة الانفتاح، والتواصل مع بقية أطراف التعدد الكندي، وخاصة السكان الأصليين، والكنديين من أصول غربية، والكنديين الأفارقة، متخذين مبدأ التعارف والتواد والبر بين الناس، مدخل إنساني وقومي كندي، ويجب التأكيد هنا على ضرورة بقاء الحوار والتواصل المجتمعي وشرح تقاليد وأفكار المجتمعات المهاجرة، مع الكنديين ذوي الأصول الغربية، لتحييد مشاعر الانقسام الاجتماعي، وخاصة في مخاوف التموضع السياسي الانتخابي المتزايدة.

أما المسار الثاني فهو فض النزاعات، والدبلوماسية الشعبية لكندا الجديدة، ورغم التورط الغربي في الحروب، إلا أن بعض الجهود في الدول الغربية حققت في بلدان من الوطن العربي، والشرق، نجاحات نسبية لبيئة سلام، أو حوار يدفع لفض النزاعات والحروب الأهلية، أو الصراعات السياسية الدموية الداخلية، والتي تعد من أكبر عناصر إنهاك الشرق بل العالم، وتساهم في انفجار العنصريات المتعددة اليوم، في مناطق العالم، وبالتالي خلق بيئة للعنف والعنف المضاد.

والمهمة المرجوة هنا، هو تنظيم حوارات نوعية داخل كندا وخارجها، وتقديم مقترحات، تساعد في تأسيس خارطة لفض النزاعات، أو المصالحات الموسمية الحقوقية، في الوطن العربي والشرق، والتي هي من أهم قضايا المعاناة للحالة الإنسانية، في الشرق المسلم وغيره.

لأن فض النزاعات لا يمكن أن يتم، دون بنية فكرية، تنخرط في حوارات جدية، لا لتوحد الناس في أيدولوجياتهم، أو مواقفهم السياسية، وإنما تجمعهم على مشتركات إنسانية، وتقلص دوائر الصراع فيها.

ودور الدولة الكندية هنا مهم ورئيسي، لكي تتقدم بشراكتها أمام العالم الجديد، وتحصد دبلوماسية شعبية مستحقة لها، للحضور في أزمات العالم، وتحويل تعددها الوطني، واحتضانها لمهاجرين ولاجئين من عدة أقوام وأقطار، إلى ورش عمل يشار فيها إلى كندا القوة الدبلوماسية الجديدة، التي تقدم مصالحها في فض النزاعات لشعوب الأرض، على مصالح إشعال الحروب وتجارة السلاح، المؤذية لكل أطراف الحرب.

وإنني هنا من خلال حضوري الحديث في كندا، في 2017، أدرك الجهود السابقة، لشخصيات كندية عربية وغيرها، اهتمت فكرياً وثقافياً، بهذا المسار وأقدر جهودها، كما أننا نؤكد بأن قاعدة إمكانياتنا محدودة للغاية، ولكن الأمل وروح السلام لإسعاد المضطهدين والمحرومين، من آثار الحرب، هو خطوة جيدة ولو وصلت بعد ألف ميل.

إن عزيمتنا تتوجه لتحقيق أكبر مساحة من فرص الحوار، والتوجيه العملي لها، لفك الاحتقانات التي قد تتوسع داخل كندا، أو رصف الطريق لثقافة الحوار لفض النزاعات خارجها، وتحقيق مشاريع ومبادرات تنفيذية على الأرض، تتبناها الدبلوماسية الكندية، ومراكز القرار وصناعة الفكر المسؤولة، وأن تطلق هذه الحوارات، بعد التواصل مع الشرائح ذات الاهتمام، والتي ترحب بالمساهمة، وتجدول بحسب الفرص المتاحة، والتقدير الثقافي لها.

آملين أن تكون هذه المبادرة، ضمن النجاحات التي يستطيع أن يحققها الحضور العربي الجديد، لصالح كندا ومجتمعها الوطني الشامل ومبادئها الدستورية.