مهنا الحبيل

30/8/2022

تنشر هذه المادة في ذروة التحولات الإقليمية الكبرى في المنطقة، وتحولات العلاقات بين دولها، ومؤخراً أنهت تركيا تدشين خطتها المركزية في هذه المرحلة، وهي التي أضحت رسمياً تعزيز علاقتها القديمة مع تل ابيب، والتطبيع مع الحكومات العربية التي حاربت الربيع العربي، وتكثيف جسور المصالح معها، وهذه الخطوات الأخيرة، وإن جاءت في سياق الصفيح الساخن المبكّر للانتخابات التركية، في يونيو حزيران 2023، وملف التخلص من اللاجئين بأي ثمن، إلا أنها في الحقيقة تعيد سياق الدولة في تركيا إلى مفاهيم المصالح البرغماتية، بعيداً عن المبادئ أو طموح التيارات العربية الموالية لتركيا الحديثة.

       وليست مهمة المقال تقديم تحليلاً سياسياً مستحقاً لهذا الانقلاب في السياسات، والذي رصدناه قديماً وتوقعنا مآله، خاصة بعد اتفاق سوتشي لتصفية الثورة السورية، ثم ظهر اليوم في صورة الاستعداد الشامل، للتنسيق بين نظام دمشق وأنقرة في مستقبل اللاجئين، ولكنه محاولة لإعادة تفكيك سؤال الإشكال التاريخي في علاقات الأتراك بالعرب، لوضعه في مسار تصور ثقافي قابل للنقاش، يتجاوز تقلبات السياسة التركية ومواسم الأنظمة العربية، لصناعة أرضية تفاهم عميقة للمستقبل، تقوم على تصالح أو تفهم اجتماعي بين الشعوب، التي تجمعهما الرسالة الإسلامية، بمجهر واقعي لا أحلام تنهار تحت المصالح الشرسة.

لقد أثّرت فكرة الأزمة التاريخية بين العرب والأتراك العثمانيين، ثم الصراع مع القوميين العرب الذين ردوا على القوميين الأتراك في ذروة ثورتهم، التي إنطلقت جذوتها منذ قرون، ولم تكن مطلقاً وليدة الصراعات الأخيرة، لكن هذه القومية أضحت جذراً رئيسياً للدولة الحديثة، ولم يكن الأمر وليداً لتحالف حزب العدالة الحاكم مع الحركة القومية، في دورات الانتخابات الأخيرة، فالقضية عميقة جداً في الهيكل السياسي للدولة وفي وجدان الشعب.

       لقد كانت حصيلة جولتي البحثية في تركيا 2014 مهمة للغاية، في فهم التاريخ العثماني، في الأربعة القرون الأخيرة، وبروز ظاهرة الإصلاحيين الدستوريين، ذوي التوجه الإسلامي، والذين اختلفوا مع عدد من سلاطين آل عثمان، وتعرضوا لما تعرضوا له من عقوبات، وهو تاريخ في جانبه التركي مجهول للكثير من العرب، والروايات العاطفية التي تملأ السوشل ميديا والمسلسلات بعيدةً عن التحقيق التاريخي، وهو خلاف الأتراك أنفسهم وصراعهم لأجل صناعة تركيا أفضل.

       وهو باب واسع فاجئني به، أحد الأساتذة الأكاديميين الأتراك المتخصصين، في زيارة له في مكتبه الجامعي بإسطنبول، بأن أخذني إلى مكتبة ارشيفية خاصة، بعد سؤالي له:

 كيف لنا أن نصل إلى مصادر توثّق المشاريع، التي تقدم بها الإصلاحيون الدستوريين قديماً؟

فأشار إلى خزانة ضخمة، تحوي العشرات من المجلدات، أُودعت فيها تلك المراسلات والمكاتبات والمشاريع، أي أن حركة الإصلاح الفكري كانت متقدمة على محاولات العرب، وخاصة العثمانيين منهم الأخيرة التي قادها الأمير شكيب أرسلان ورفاقه العرب.

وأرسلان أحد المحسوبين بقوة على السلطان عبد الحميد، ومشروع الجامعة الإسلامية الكبرى، وهو البديل عن مشروع القومية العربية في حينه، والذي اختلف الإصلاحيون العثمانيون العرب بعد ذلك مع الأستانة فيه، حين قررت أن تستخدم المشروع دون أي إجراءات إصلاحية للمركز العثماني وللأقاليم العربية، والتي كانت تعاني من مستوى تخلف ضخم في التعليم، لا يشك فيه أي باحث أو مطلع مبتدئ.(هذه شهادة الأمير شكيب نفسه)

لقد كانت المفاجأة الثانية التي تصدر من المؤسسات الأكاديمية ومن أساتذة اسلاميي التوجه، أن هذه المكاتبات والمراسلات، كانت تصدر من فكرة إسلامية ومن غيرة على تركيا، من أولئك الوزراء أو المثقفين أو من بعض من تولى موقع الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، وأن الفكرة التي تقول بأن أولئك الإصلاحيين (خونة وعملاء) لرغبتهم في التحديث، هو تجني كبير وشهادة مزورة، وهي قصص تروّج عند العرب، ولا مكان لها يُذكر في الوجدان التركي، ولا تؤيدها مؤسساتهم الأكاديمية.

نعم كانت هناك اختراقات واسعة لأوربا في تاريخ الرجل المريض (أي مرحلة ضعف الدولة العثمانية)، وتدخلات كبيرة، وبعضها يُنتزع من ديوان بعض السلاطين أنفسهم، كما كانت هناك لحظات قوة ومنعة، وسياسات بعضها موفق واستراتيجي وبعضه عاطفي كلف كثيراً، ومنه ما يُجمع عليه الأتراك وهو خطيئة دخول الحرب العالمية وتأييد (مشيخة الإسلام في اسطنبول) فرمان السلطان بالجهاد، ومناصرة المانيا النازية ضد الحلفاء، والتي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من المسلمين الأتراك والعرب وغيرهم.

ولذلك ظل أولئك الإصلاحيين بحسب شهادة الأساتذة الأتراك، يسعون لصناعة دولة عثمانية إسلامية، قوة منعتها تأخذ بالعلم والتقدم، وفتح آفاق المعرفة لمنافسة أوروبا ومراغمتها سياسياً، وكانت مقاصدية الإسلام ودوره في الحياة الحقوقية والتقدم النهضوي، حاضرة لدى الإسلاميين منهم، غير أن مساحة دعواتهم لم تكن تصل للأقاليم العربية، ولذلك دخل التعليم الجامعي والمطابع وغير ذلك جغرافية تركيا الحديثة، قبل العرب وأقاليم القوميات الأخرى في الشرق بمدة طويلة.

لقد ناقشت مع الأصدقاء في تركيا ذلك الحين، وكانت هناك مساحة أفضل بكثير من زمن اليوم، أن العودة للتاريخ لدينا كعرب ولديكم كأتراك، يجب أن يوضع تحت البحث العلمي الذي نستفيد منه لكلا أمتينا العربية والتركية.

 وأن مفهوم الأمة الإسلامية الجامعة، يجب أن نحرره تحت قيم الرسالة المحمدية الأصلية، لا صراعات التاريخ ولا النزعات القومية، وعلينا كعرب اليوم (وهكذا قلتُ مبكراً)، أن نفهم تأثير النزعة القومية التركية، وخشية الشعب من ضياع الدولة التي تأسست في عهد الرئيس اتاتورك، وهو مفهوم يكاد أن يكون مقدساً في غالبية الشعب التركي، دون أن نقبل أي تجني أو سلوك عنصري على العرب وغيرهم.

وأن ننشغل نحن أيضاً بإصلاح أوضاع وطننا العربي وأقطاره، وأن نلتف جميعاً حول قوله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).